(«التعليم أولًا.. التعليم أخيرًا».. مفاجأة سارة الأسبوع القادم)، كانت هذه العبارة من وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن فرحان مفتاحا للتكهنات والتساؤلات لعدة أيام بعدما نُشرت على حسابه الرسمي في تويتر خاصة من منسوبي التعليم الذين يتعلقون بأي بارقة أمل ولو من جهات أخرى غير وزارتهم، وجاءت مفاجأة وزارة الثقافة سارة بالفعل وفارقة في تاريخ التعليم والثقافة على حد سواء في السعودية، وذلك بالإعلان عن إتاحة فرصة تعليمية نوعية للطلبة السعوديين في التخصصات الثقافية والفنية في أبرز الجامعات العالمية وبمختلف المراحل الدراسية.

نعلم جميعا أن الفنون والثقافة عاشت غريبة لفترة طويلة خاصة في نظامنا التعليمي الذي كان يخلو منها في المنهاج والرؤى ويحرم أغلبها فكرا وتطبيقا كتحريم الموسيقى والتصوير ورسم الأرواح والمعالم التراثية والأثرية وغيرها.

وحينما يأتي الالتفات والاهتمام بالفنون والثقافة من خلال مؤسسات التعليم نفسها وبرعاية مباشرة من وزارة الثقافة فإن نفي تلك الغربة سيكون أكبر أثرا، وتحقيق الأهداف المرجوة من تعليم الفنون سواء على الصعيد الإبداعي أو الاقتصادي أو الإنساني سيكون محققا.

المشهد البانورامي الذي يحدث في تعليمنا الآن يبدو هكذا: لا تزال بعض المناهج التعليمية تطرح رأيا فقهيا أُحاديا لبعض المواضيع التي تعد من صميم اهتمام وزارة الثقافة، كتحريم التصوير والموسيقى، ويدعم هذا الرأي الفكر العام لدى كثير من المعلمين والقيادات التعليمية التي تحول هذا الرأي لممارسة فعلية فنجد حتى اليوم أن الموسيقى تمنع في الفضاء المدرسي وقد تجرّم، وفي أقل الأحوال تعرض على استحياء ومضض في المناسبات العامة رفقة السلام الوطني فقط.

وحينما تُطرح بعض مسارات الثقافة والفنون منذ سنوات في التعليم، كالمسرح والمجالات الأدبية من شعر وقصة قصيرة وغيرها، فهي تطرح باعتبارها برنامجا لامنهجيا عبر برامج الأنشطة الطلابية فلا تجد الاهتمام الذي تستحقه ولا الكفاءة التي تعتني بها وغالب من يقوم بها وعليها هم إما ممن لديهم اهتمام خاص بالمسرح خارج إطار التعليم وانخرطوا في التدريب الذاتي والاطلاع على هذا العالم المتكامل أو أنهم مكلفون مؤقتون يؤدون تعليمات وآليات بروح خالية من الشغف والإحاطة بأهمية هذا الفن. ناهيك عن الفكر الجمعي القديم الذي يحتقر الفن والتمثيل والغناء ومن يؤديها، والذي أيضا يخجل من تعليم البنين أسس الطهي والعناية المنزلية وأسس النظافة كما يأنف عن تعليم البنات العمارة والعمل الحرفي.

قبل عدة أسابيع من الآن كان هناك اجتماع بين وزيري التعليم والثقافة انتهى بالإعلان عن الاتفاق بإدراج الثقافة والفنون في مناهج التعليم العام والأهلي، وكان المعلمون هم أكثر من تندّر على هذا الخبر- وتنمّر أيضًا- وأجد لهم العذر في هذا لأن الارتجال في القرارات وإرهاق الميدان التعليمي بها وإلزامه بتطبيقها دون المعرفة التامة بالواقع الذي يعيشه بشكل متكامل معضلة يعاني منها تعليمنا، فحينما يفترض أن يتم تعليم الموسيقى أو المسرح أو الفنون البصرية أو التراث وغيرها من معلمين في تخصصات مختلفة لن تكون النواتج كما يتوقع لها من الوزارات، وهذا ما يحدث على سبيل المثال في مجال التربية الرياضية لدى البنات. فإن كنت تريد أن تعلم منهجا دراسيا ينبغي أن تتخذ الإجراءات والممارسات المؤسسية الكاملة والتي يأتي في منتصفها تعيين المختصين في تلك المجالات لتدريسها.

لهذا يأتي برنامج الابتعاث التعليمي الذي أعلنت عنه وزارة الثقافة للمجالات الثقافية خطوة مهمة جدا لأنها ستبني قاعدة من المتخصصين في تلك المجالات الذين سيؤسسون بدورهم عند انتهاء دراستهم صفا جديدا من المتعلمين الذين يأخذون هذا العلم بطريقة صحيحة. وحتى تتهيأ الساحة التعليمية لاستقبالهم جيدا على وزارة التعليم أن تقوم بما يساهم فعليا في إنهاء غربة الثقافة والفنون لديها بدءا بالمناهج والمنتسبين للوزارة. وعلى الجامعات في هذا الأمر دور كبير أيضا فهي الواجهة التعليمية والتنويرية لكل مدينة وباستطاعتها عبر تبني مبادرات مجتمعية أو افتتاح أقسام أكاديمية مختصة أن تساهم في تسريع الخطوات التي تسعى لها وزارة الثقافة واعتبار أن أعمال كل الوزارات تكاملية ومنسجمة لتحقيق أهداف القيادة ورؤية المملكة 2030.

إن تناغم وزارتي الثقافة والتعليم معا في بعض الأهداف والإجراءات ستؤنس التعليم وتخلق نوعا من التصالح الفكري لدى النشء، بقبوله للتعددية الثقافية مع اطلاعه على الفنون والحضارات العالمية والأخذ بمهاراته العقلية نحو التذوق الفني فضلا عن تشكيل قوة ناعمة لا يستهان بها لرفع اسم ومكانة وجهود المملكة العربية السعودية للعالم كله بطريقة حضارية وواعية وممنهجة.