هناك انطباع عند كثيرين إن لم يكن الكل من معارضي جماعة الإخوان المسلمين بمختَلَف درجات المعارضة، أن الجماعة تم تفكيكها وأنها في أوهى مراحل ضعفها، ذلك الضعف الذي هو كمرض الموت ليس بعده إلا النهاية، وقد استشففت ذلك من كثير من النقاشات حتى مع مثقفين ومشايخ متعاطفين مع الإخوان، لكنني حين أنظر إلى الواقع المحلي والعربي والإسلامي والعالمي، أجد أن الوضع مختلف عمَّا يتصوره الإخوة، وأجد أن الإخوان المسلمين في وقتنا هذا يعيشون أقوى حالاتهم وفي أزهى أوضاعهم منذ نَشَأت الجماعة حتى اليوم.

فقد أصبحت للإخوان دول ترعاهم، وهو ما لم يكن طوال تاريخهم الذي لم يكن لهم فيه دولة راعية لهم، حتى إيران الخميني التي قدم لها الإخوان كثيرا، لا أرى أنها قدمت لهم شيئا يذكر يقارب ما قدموه لها من التزكية والترويج في العالم الإسلامي، وهو السلوك الذي ما زالوا يقومون به غير مكترثين بجرائمها في دماء المسلمين وبلادهم، أما الرعاية فقد أصبحت تركيا راعيا رسميا للإخوان، فحزب العدالة بالرغم من الاختلاف السابق بين الإخوان وبينه إلا أنه في النهاية تبنى الإخوان في مصر، كما أن الإخوان في كل الأقطار تبنوه، وهذه الإستراتيجية كانت وما زالت مفيدة جدا للطرفين وفق معاييرهما.

وبعد تولي مهاتير محمد السلطة أخيرا في ماليزيا ظهر أن هناك دولة ثالثة ستشارك وبقوة في رعاية الإخوان، خاصة أن مهاتير لديه الرؤية نفسها التي لدى الرئيس التركي من حيث عدم تعارض الإسلام والعلمانية، وهي الرؤية التي تبناها أيضا بعض مفكري الإخوان كراشد الغنوشي، ويوسف القرضاوي الذي أطلق أثناء معركة صياغة الدستور في مصر مقولته الشهيرة: «الحرية قبل تطبيق الشريعة» وتعني أن الشريعة خيار شعبي، وهذا هو روح العلمانية، كما أفتى بجواز أن يكون رئيس الدولة المسلمة نصرانيا.

وأعتقد أن جماعة تتبناها ثلاث دول كهذه لا يمكن أن نقول: إنها على وشك السقوط والتحطم، والذي في المشهد أن استقطاب دول أخرى راعية للإخوان جارٍ على قدم وساق، ولن أتكلم عن الدول الجديدة المحتملة لكنني أكتفي بالقول: علينا ألا نتفاجأ.

وكثير من السياسيين والإعلاميين والمثقفين الليبراليين يعتقدون أن الإخوان مرفوضون من دول الغرب لأنهم إسلاميون، وأن معظم الحركات الإرهابية خرجت من رحم الإخوان، لكن الحقيقة تبدو لي عكس ذلك، فالمراكز البحثية الغربية والتي غالبا ما تكون تقاريرها مفتاحا لفهم السياسة الغربية، ترى في الإخوان المسلمين -وليس في الليبرالية ولا القومية- المخلص لهم من كثير من المشكلات، فهم أقل فسادا ماليا، مما يعني أنهم سينهضون بدولهم بحيث تستطيع تنشيط عملية سداد القروض، حيث الاقتصاد الغربي اليوم في حاجة لذلك، كما يجعل تلك الدول أقل احتياجا لدعم دول الغرب التي أصبحت مثقلة بأعبائها، وقادرون على ضبط الهجرة والتقليل من عدد المهاجرين غير الشرعيين، إضافة إلى أن الإخوان أثبتوا مرونة وقدرة كبيرة على القبول بالإسلام كما يريده الغرب، وقد كانت كلمة إبراهيم منير ممثل الإخوان في بريطانيا سابقا أمام مجلس العموم البريطاني مُصَدِّقة لهذه التوقعات الغربية، حيث رأى منير أن القرآن ينص على أحقية الإنسان في أن ينكر وجود الله، وقال إن منع الملحدين ليس حتى من حق الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكذلك يرى منير حق الإنسان في الشذوذ، وأن الشريعة تعطي له هذا الحق.

وتبعتها تصريحات راشد الغنوشي في لقائه في مركز الشرق الأوسط للدراسات، حيث ذكر أنه لا علاقة لهم بالقضية الفلسطينية ولا بتطبيق الشريعة.

وأقوى من ذلك تجربة حكم للأحزاب القريبة من الإخوان والأحزاب الإخوانية في تركيا والمغرب وتونس ومصر، كلها اتجهت إلى علمنة الإسلام دون تحفظات، بمعنى أنه ليس بينها وبين أي حكومة ليبرالية في الغرب في التعامل مع الأديان والآداب والأخلاق أدنى فرق، إلا في نَفَس الانتماء للدين لا غير، وهذا يراه الغرب نقطة لصالح الإخوان.

وبما أن أكثر الجماعات التكفيرية انطلقت من رحم الإخوان، فالإخوان هم وحدهم القادرون على إغلاق هذا الرحم وليس الليبراليون أو القوميون، هكذا يفكر الغرب.

وأمر آخر لعله أكثر أهمية في نظري يتسبب اليوم وسيتسبب لاحقا في قوة الإخوان الشعبية، وأعني به الأخطاء الإعلامية الشنيعة في محاربة الجماعة، سواء أكانت عبر الإعلام الرسمي أم من قِبَل المختلفين معهم عبر الإعلام الاجتماعي، من أمثال ما يفعله بعض الإعلاميين الليبراليين والنسويين في معرِض محاربتهم لبعض الظواهر المحافِظة على قِيَم المجتمعات المسلمة وثوابتها، إذ ينسبون للإخوان كل متدين يُظهر احتلافاً مع أفكارهم كليا أم جزئيا، وكذلك محاربة الفتاوى التي لا تتوافق مع دعاوى الانفتاح بنسبة أصحابها أو داعميها إلى الإخوان، وأيضا كثرة اللهج بمزاعم أن الإخوان متغلغلون في الأجهزة التعليمية والكليات والوزارات والمطالبة باجتثاثهم في أسلوب يشبه النهج المكارثي.

فهذه الأخطاء من شأنها الإيحاء بقوة الإخوان وضخامة عددهم ونجاحهم في التعليم بجميع مراحله، كما توحي بأن الإخوان هم المدافعون عن الفضيلة والدين والثبات على القيم الدينية، وأنهم هم من يُعَرِّضون أنفسهم للمخاطر من أجل كلمة الحق، هذا الطرح بهذه الطريقة لن تؤدي كثافته إلا لمزيد من التعاطف والشعبية للجماعة، وأعتقد أن الإخوان المسلمين سيكونون مسرورين بهذا الطرح، وبالفعل هم يقومون الآن بالتفاعل معه بطريقة مناسبة تزيد من مكاسبهم.

أعتقد أن الحل دائما وفي كل المشكلات ينطلق من ثلاثة مبادئ:

الأول: العمل، الثاني: العلم، والثالث العدل.

فإذا أرادت الدول العربية جمعاء أن تكون الكلمة العليا لها وليس للجماعات، أيا كانت إسلامية أم قومية أم يسارية، فليس لديها سوى هذه الأمور الثلاثة مجتمعة، أما دونها جميعا أو دون واحد منها فلن يتحقق النجاح لأي دولة في مواجهة سائر التوجهات الثورية، من إسلامية وقومية بل حتى يسارية.

أما العمل فبذل الجهود المضنية في التنمية ومحاربة الفساد وإقامة الدين والمحافظة على الفضيلة والمبادئ الشرعية بشكل جاد يغلق الطريق أمام أي صوت هدام مهما كان توجهه.

وأما العلم: فيقتضي عدم فتح المجال للجاهلين والمغرضين ليكونوا هم محركو الحملات الإعلامية الرسمية ضد أي جماعة أو دولة، فالجُهَّال والمغرضون يحكمون على الصحيح بأنه سقيم وعلى السقيم بأنه صحيح، وهذا يحقق الخلط والعداوة في المجتمعات والدول.

وأما العدل فيقتضي النقد بما هو حق دون إسراف بنسبة ما ليس في الجماعة إليها، ودون تعميم بجعل بنسبة كل خطأ أو عيب حصل في نفرِ من الجماعة إلى كل منتسب إليها، وكذلك دون تساهل أو تقصير، وذلك بتبرير ما تقع فيه الجماعة من طوام.

كما يقتضي العلم والعدل معا نبذ ما يفعله البعض من التذرع إلى نقد الدين والفقه الإسلامي وأصول المعتقد بنقد الإخوان بشكل يُصوِّر الجماعة وكأنها الحاملة لعبء الدعوة وتمثيل الدين، ولا شك أن هذا الانطباع هو ما يرفع أسهمها ويعزز ثقة الناي فيها.

وثَمَّة أمر رابع، وهو الحِرَفِيَّة في الطرح الإعلامي، ولأقل بصراحة إن العمل والعلم والعدل إذا كانت هي وحدها البضاعة دون حرفية إعلامية فلن تصنع شيئا، وقد تكون وبالاً على صاحبها، وقد ينجح الخامل والجاهل والظالم في نشر رؤيته وإقناع الناس بها إذا ملك القدرة الإعلامية لتسويق نفسه.

أما إذا اجتمع التسويق الإعلامي المبني على رؤية لنفسية المتلقي ووسائل إقناعه مع العمل والعلم والعدل فهنالك اجتمعت كما يقال القضية الصحيحة والمحامي القدير والقاضي العادل.