يهتم «أحمد» بتربية الطيور منذ صغره، ويحب النادر منها، ويوجد في إحدى زوايا سور منزله مربع خاص ملأه بأقفاص رعاية الطيور، لكن أصواتها تعالت في إحدى الليالي على غير العادة، وكأن إحدى الهوام وجدت سبيلا للنيل منها، وفي صلاة الفجر صبيحة ذلك اليوم، كان مما قرأ الإمام «ولحم طير مما يشتهون» ليتذكر أحد الجيران الحادثة، ويلتفت بعد الفريضة يمينا وشمالا بين جماعة لا يتجاوزون الـ10، بينهم طفلان حَدَثان ليسأل: ما بال الطيور ثارت سكينتها؟

أفاد «أحمد» بأن الأمر بسيط، لم يكن سوى قطّ متوحش تسلل إلى الأقفاص، لتتعالى منها الأصوات، فتمّت عملية الإنقاذ بنجاح، ولم يتضرر سوى اثنين فقط بسبب التدافع!.

عاد الطفل الصغير «أحد جماعة الفجر» مهرولا إلى منزله: أمّاه! هجم الوحش على الدجاج وقضى على كل الحظائر، لم تمهله فرفعت سماعة هاتفها على أقرب جاراتها، هل سمعت الكارثة؟ وقصة الوحش الثائر الذي اجتاح كل الحظائر؟ هي لا تدري لكن الخبر أثار حفيظتها وستبحثه!

في غضون دقائق معدودة، أصبحت جميع خطوط الهواتف مشغولة، ووسائل التواصل مشتعلة: أزمة الدجاج قادمة، وغلاء بيض المائدة.

تنادت البيوت سرّاً، وعقدت ربات البيوت اجتماعات عاجلة مغلقة، واستُدعي كل العاملين، وحضر الطّهاة، وتباحث الجميع، كم مقدار الحاجة اليومية؟ وحجم الاحتياج لعام قادم؟ وكم من حاويات التخزين؟ وفي لحظات عصيبة رصدت القوائم، واعتمدت الجداول، وصُدّرت في رسائل عاجلة لأرباب البيوت بتوصيات المبادرة لمسابقة الأزمة، والاستحواذ على الكميات قبل النفاد!.

شهدت مصالح البلد ضررا هائلا، وتعطلت الأعمال في اليوم نفسه خلف حمى «الوطنية»، واستقبلت المخازن ونقاط البيع سيلا عارما من عمليات الشراء، وتسرب إلى البعض أنباء الأزمة القادمة، فرفع السعر إلى درجات باهظة، ونفد كل المخزون من المستورد والمنتج، دون النظر إلى تاريخ الصلاحية في هذه المرّة، وانتقلت حرارة البيع إلى معدات التبريد وأجهزة التخزين، وغابت شهية البحث عن الجودة في عالم الماركات وشركات التصنيع، حتى نفدت مخازن تحوي مئات المكائن التي غمرتها الأتربة من بضع سنين.

تنفس المهتمون الصعداء!، فقد امتلأت البيوت بمخزون إستراتيجي يحقق أمنا غذائيا لمستقبل بعيد، لا يخشى فيه غياب صديق المائدة!.

وفي نشرة المساء، أصدرت وزارة الثروة الحيوانية بيانا يفيد بأن الحظائر تعمل بكامل طاقاتها الإنتاجية، ولا يعاني السوق المحلي من أي أزمة في الإنتاج، ويجب على الجميع أخذ الأخبار من مصادرها، وعدم الانسياق خلف الشائعات.

وبعد عرض البلاغ على مركز تحليل المعلومات، اكتشف أن الكارثة نبعت من قفص طيور السمّان التي يملكها «أحمد»، ولا علاقة لفصيل الدجاج بالحادثة بأي شكل من الأشكال، وأن المسؤول هو من روى قصة القط السائب، والذي أصبح بدوره وحشا يهدد الأمن الغذائي!، فيجب مصادرة الأقفاص، وإحالة المالك لجهة مختصة. أما النتائج فكانت كارثية تفوق حجم المتوقع، أقلّها إثارة الفزع وإقلاق السكينة العامة، ونشر الهلع بين الناس، وتعطيل مصالحهم، وإفراغ الخزائن المالية لكثير من الأسر، وتكليف البعض الآخر بالاتجاه إلى تحمل المديونيات لتوفير الاحتياج، وبعد أن اتضحت الرؤية وانقشعت سحابة الأزمة، فالمشكلة لم تقف عند هذا الحد، فقد أصبحت عكسية، فبعد المراجعة والتدقيق كيف يمكن التخلص من الكميات التي أوشكت صلاحيتها على الانتهاء؟ بل كيف سيكون مصير الزائد من الأجهزة؟ فنتيجة قراراتنا لاحتواء الأزمة، أورثت أزمةً أكبر!

وماذا بعد؟ فإذا مضت هذه الشائعة على جزء من سكان البلد فقط، فكم سيكون قدر الهدر المالي ونزيف الوقت وأخطاء القرارات؟

وبعد هذا العرض «المفتعل» لتفاصيل اختفاء صديق المائدة كمثال بسيط لدور الشائعات وتحولاتها عبر مراحل النشر من شخص لآخر، وأثرها في الناس، وتدميرها لكثير منهم، فكيف بما يحصل في ظروف الأزمات والحروب، ومجال المال وسوق الأعمال، وأحداث السياسة، وأمور العلاقات الاجتماعية؟.

في إحدى الدراسات التي أجريت على عينة من المجتمع حول مجالات الشائعة، وأسباب انتشارها، ووسائل تداولها، والتي نشرت في مجلة العلوم الاجتماعية، فقد كان ترتيب مجالات الإشاعة على النحو التالي: الاقتصادية 28%، والسياسية 23%، والاجتماعية 18%، والأخلاقية 17%، ثم الدينية 14%، بينما كان دور وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الشائعات يمثل 96%، ويشكل تحول الشائعة إلى ظاهرة 88%، مما يدلّ على سعة الانتشار، وقوة التأثير.

وهكذا تفعل الشائعات في مجتمعنا فعل الكارثة، فتؤدي بنا إلى قرارات خاطئة وتحملنا نتائج مكلفة، وتفضي إلى أزمات مضاعفة وخطيرة، وتزرع القلق والشك، وتسبب اهتزاز الثقة لدى العامة، وتغير اتجاهات، وتهدم قيم، فهي بضاعة البوار، ووسيلة الدمار، ودلالة ضعف الثقافة.

إن الشائعة في نظر البعض مجرد خبر بسيط لا يتجاوز بضعة أشخاص، لكنها في الواقع زعزعة للهدوء النفسي والاجتماعي، وإرجاف يؤثر على السكينة العامة، ويستنزف المقدرات، ويهدد الأمن والسلم والاستقرار.