الدراما فن قديم جدا، بل قد يكون أقدم الفنون على وجه الأرض، حيث يُرجع بعض الباحثين بدايته إلى تصوير صراع ابني آدم، عليه السلام، ومن ثم أصبحت قصصا تعبر عما مر به الإنسان من صعاب في سبيل البقاء وسط حياة مليئة بالمخاطر، وذلك من خلال شخوص تمثل المعاناة بحركات معبرة وأصوت تضيف مؤثرات تعزز عمق فهم المتلقي للمعنى، ومع تقدم الزمن تطورت الدراما إلى أن وصلت لما وصلت إليه الآن.

إذا فالدراما هي مصنع تدوير ثقافات المجتمعات، لأن موادها الأولية هي حياة الناس، وقديما كان دورها فعالا في محيط محلية المجتمع من خلال نقل ثقافة المجتمعات بين أجياله وللمجتمعات القريبة منه، ومع تطور أدواتها أصبحت الدراما ناقلة للثقافات المتباينة بين المجتمعات المختلفة في كل أنحاء الكرة الأرضية، ومن هنا ندرك مدى تأثيرها في سلوكيات أفراد المجتمع سلبا أو إيجابا، وقدرتها على التغلغل ببطء بين الثقافات لتغير أيديولوجياتها المتوارثة.

الدراما في زمننا بدأت بأفلام الزمن الجميل ومسرحياته، من خلال شاشات الأسود والأبيض التي كانت تلون الحياة بالقيم وتروي الأخلاق بالنفع والعبر، بعدها ظهرت المسلسلات المصرية واللبنانية التي سارت على نفس النهج، فكانت تأتي منا كعرب لتعود إلينا كعرب، لنا قيم واحدة وثقافات متشابهة فكانت ترتقي وتسمو بنا.

ولكن مع عولمة العالم والثورة الرقمية، والفقرات الإعلامية، أصبحت الدراما تنهل علينا من كل حدب وصوب، بغث أكثر بكثير من ثمين يفيدنا، ولعل الدراما التركية هي الأخطر، حيث إنها تتصدر مشهد اليوم لجذب المشاهد واهتمامه، ولكن هل هذه الدراما تناسبنا أم هي خطر علينا؟

خلال مدة زمنية قصيرة جدا لاحظنا تأثير هذه المسلسلات السيئ جدا على مجتمعاتنا العربية بصفه عامة وعلى مجتمعنا بشكل خاص، لأسباب متعددة أولها أن المسلسل بصفة عامة زائر يقيم معنا لشهر على الأقل، يعيش بأحداثه وشخوصه بيننا ويحفر في قلوبنا وذاكرتنا أثره، فما بالك عزيزي القارئ بالمسلسل التركي الذي يقيم معنا لسنوات من خلال مواسم، لا تقل حلقات الموسم الواحد فيه عن 60 حلقة!

المسلسلات المكسيكية كانت الأسبق في الدخول لمجتمعاتنا، ولكنها لم تعمر عندنا، لأن سم الدراما التركية الممزوج بعسل الرومانسية الخيالية في مجتمع يدين بنفس ديننا ولغة تحمل من لغتنا كثيرا، وتاريخ طويل تغذت فيه عقولنا على مآثر العثمانيين، جعلتنا نعجب بهم وبما يقدمون حد الانبهار الذي أذاب الفوارق العمرية والفكرية بين متابعيه، لتنصهر كلها في بوتقة العشق لتلك الدراما الفقيرة بمحتوى إيجابي يناسب قيمنا وثقافتنا، الغنية بسلبيات لها آثار جانبية خطيرة علينا كمجتمع.

أول تلك الآثار خدوش خطيرة أحدثتها تلك الدراما في نسيج البناء العاطفي من خلال رومانسية خيالية مزيفة، تقدمها لنا، هزت كيان الأسر داخل بيوت كانت آمنة مطمئنة قانعة بشريكها قبل أن تغريها أكذوبة الرومانسية التركية، التي لو بحثنا عنها على أرض الواقع التركي لصدمتنا حقيقة علاقاتهم العاطفية المغايرة تماما لما يعرض في مسلسلاتهم، فالرجل التركي عنيف جدا، ونساؤهم إما مغلوبة على أمرها ومعنفة ومطحونة، وإما منشغلة بإثبات مساواتها الكاملة مع الرجل، مما يجعلها في صراع دائم معه.

من آثارها السلبية أيضا المغالطات الشرعية الكبيرة التي تزدحم بها تلك المسلسلات، من خلال عقوق الوالدين، والعلاقات الجسدية قبل الزواج التي تعتبر عادية جدا في محيط الفكر الذي تقدمه، والخيانات الزوجية المبررة لأسباب واهية كالخلاف، أو جمود العاطفة الذي قد يصيب أي زواج وله ألف مخرج إلا الخيانة، التي هي الحل الأسرع والأنجح في الدراما التركية الغريبة، والشرب حد السكر الذي يعتبر في مسلسلاتهم أول ردة فعل عند أتفه مشكلة للهرب والنسيان بدل البحث عن مخرج يليق بإنسان مسؤول، ومن أغبى ما رأيت في لقطة ضحكت عليها كثيرا فطور رمضاني النبيذ فيه هو الشراب الأساسي، أما اللجوء للانتحار فحدث ولا حرج في تلك الدراما، والمصيبة أن كل هذه المغالطات تأتي بحبكة تجعل المشاهد يتعاطف مع الخطأ والمخطئ كارها الصواب والمصيب..!

لن نتجاهل العنف في دراما الأتراك، فقانون الغاب هو السائد، والانتقام الشخصي أقوى من السلطة والقانون، وكم من مشاهد تزخر بها الحلقات لتعذيب وقتل في مواقف سيارات مهجورة، أو أماكن مقطوعة، وبعضها في الشوارع العامة وعلى مرأى الجميع.

ولن ننسى المغالطات التاريخية التي تلمع التاريخ العثماني بما لا يستحق. طال المقال وما في جعبة من يرى حقيقة مضامين المسلسلات التركية الكثير..

هي خطر يجب أن نوقفه، وهي سوس ينخر في عظم ثقافاتنا وأخلاقنا وقيمنا يجب أن ننظف مجتمعنا منه، ونعوضه بما يبني لا يدمر، وبما يرتقي بنا لا يجرنا إلى أسفل.

لو بحثنا على أرض الواقع التركي لصدمتنا حقيقة علاقاتهم العاطفية المغايرة تماما لما يعرض في مسلسلاتهم، فالرجل التركي عنيف جدا، ونساؤهم إما مغلوبة على أمرها، وإما منشغلة بإثبات مساواتها مع الرجل، مما يجعلها في صراع دائم معه