تحول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى ما يشبه الظاهرة الصوتية مع كثرة التصريحات والتهديدات التي يطلقها، ثم يعود عنها لاحقاً كلما وصل «حافة الهاوية»، وكان آخرها إطلاقه تهديداً بـ«تلقين درس» لقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق ليبيا، إذا استأنف هجماته ضد حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وذلك بعد مغادرة حفتر محادثات موسكو دون توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، موجهاً رسائل بالجملة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي إردوغان بأنهما لا يمتلكان قواعد إدارة اللعبة السياسية في ليبيا خلاف أمرهما في سورية.

فقاعة

في خطاب أمام نواب حزبه قال إردوغان الثلاثاء «لن نتردد أبدا في تلقين الانقلابي حفتر الدرس الذي يستحقه إذا واصل هجماته ضد الإدارة المشروعة وضد أشقائنا في ليبيا». كما قال إن «حفتر الانقلابي لم يوقع على وقف إطلاق النار. في البداية قال نعم، ولكنه غادر موسكو لاحقا للأسف. لقد فر من موسكو». وتابع «لنقل الأمور بوضوح، لو لم تتدخل تركيا لاستولى الانقلابي حفتر على كل البلاد ولوقع كل الشعب الليبي ضحية ممارساته».

شريط مكرر

استدعت تصريحات إردوغان كثيراً من المتابعين لاستعادة تصريحات حملت ذات النفس التهديدي، لكنها كانت موجهة من إردوغان لرئيس النظام السوري بشار الأسد، حيث أطلق تغريدة في 5 مايو 2013 قال فيها «أقول للأسد: لقد اقترب عدد الضحايا الذين قتلوا في سورية من 100 ألف إنسان، قسما بربي ستدفع الثمن غاليا».

الثمن الغالي

ما بين مايو 2013، وفبراير 2019، مرورا بأحداث عامي 2016 و2018 انتظر العالم الثمن الغالي الذي سيدفعه الأسد، لكن الأخير خرج في فبراير 2019 لا ليؤكد فقط أنه لم يسدد أي ثمن، بل وحتى ليهاجم إردوغان ويصفه بـ«اللص»، في تأكيد على أن زمن الخوف من إردوان وتهديداته قد انتهى.

في 2016، تراجع إردوغان خطوة، وبدل أن يصر على الثمن الغالي، قبل باستمرار الأسد علناً لمدة 6 أشهر، ثم في فبراير 2019 اتخذ خطوة أخرى والتقى رئيس جهاز مخابراته حاقان فيدان ووزير الخارجية مولود تشاوش ووزير الدفاع خلوصي أكار، مع رئيس مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك في موسكو في تأكيد على التقارب مع الأسد.

حصيلة دامية

بعد مايو 2013، وبعد تغريدة إردوغان أو فقاعته وفي إحصار صدر في مارس 2018 بلغ عدد القتلى في سورية 511 ألف قتيل حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان (أي 5 أضعاف الرقم الذي حرض إردوغان على إطلاق فقاعته).

وفي مارس 2018 أيضا بلغ عدد النازحين في سورية داخليا 6.6 ملايين نازح، وعدد النازحين السوريين الذي لجأوا إلى بقية دول العالم 5.6 ملايين نازح حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

ومابين تغريدة إردوغان وإحصاء 2018، سجلت الجهات الحقوقية العالمية 85 هجوما كيماويا نفذه نظام الأسد على المدنيين السوريين.

أوراق لعب

حتى مع قبول العالم بالحد الأدنى من التهديد الذي أطلقه إرودغان فإن هذا الأخير بدل أن ينتصر لـ«100 ألف إنسان قتلوا في سورية» بادرت مقاطعات بلاده للتضييق على من لجأ إليها من السوريين، بعدما لعب بهم كأوراق ضغط على أوروبا، فمنذ يناير 2019 قامت 10 مقاطعات تركية، بما فيها إسطنبول وهاتاي، بتعليق تسجيل طالبي اللجوء السوريين، كما اعترضت قوات الأمن التركية ورحّلت آلاف طالبي اللجوء السوريين الذين وصلوا العام الماضي إلى الحدود التركية-السورية، وأبعدتهم إلى محافظة إدلب السورية، حيث تعمل طائرات الأسد والحليف الروسي على دكهم وضربهم يوميا.

تلاعب

في وقت يصف كثيرون إردوغان بأنه رئيس براغماتي يبحث عن مصالحه ويقفز بين المتناقضات دون تقيد بمبادئ وإيديولوجية أو معتقد، إلا أن تراجعاته من النقيض إلى النقيض بدأت تهدد عرينه، فبعد التبجح بحماية القضية الفلسطينية أبرم ما يشبه التطبيع الكامل مع تل أبيب، وبعد أن هدد وأرعد وأزبد عاد للاعتذار الواضح والمكتوب لموسكو، وبعد أن توترت علاقاته مع مصر عاد إلى الانفتاح التدريجي نحو القاهرة، وبعد أن هدد الأسد عاد لمحاولة طرق أبواب العاصمة السورية دمشق.

نهاية

في ظل هذه التقلبات فإن مراقبين يتوقعون أن يدفع المرتزقة الذي زج بهم إردوغان في ليبيا لمواجهة حفتر وحماية السراج الثمن، حيث سيكون أول من ينقلب عليهم، وأول من يقفز من مركبهم إذا ما شارف على الغرق، خصوصاً إذا جاءت نتائج مؤتمر برلين الأحد حول ليبيا على غير ما تهواه نفسه.