لو قرات تاريخ العالم السياسي خلال عدة عقود، فإنك غالبا ما ستصل إلى نتيجة تقول إنه لا يوجد شعب مارس السياسة ودخل دهاليزها وعرف مداخلها ومخارجها مثل الإنجليز، لما مروا به في تاريخهم من غزوات خارجية وحروب، حتى بين بعضهم بعضا، ومؤامرات ودسائس، هذا غير تاريخهم الطويل في المستعمرات الذي يمكن أن تؤلف فيه مئات المجلدات في السياسة وألاعيبها وكيفية السيطرة على الشعوب، وكيفية إدارة موارد العالم، والدسائس والمسامير مثل مسمار جحا في كل مكان في العالم.

فعلا كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ولك أن تتصور أن بلدا كان يدير سياسة أكثر من 50 دولة حول العالم، وكل من هذه الدول تحتوي على عدة عرقيات وأقاليم مختلفة ومتحاربة فيما بينها، وكيف لك أن تنسق بينها لتكون المحصلة النهائية مفيدة لبريطانيا، وكانت عمليا تحلبهم حلبا. ربما يقول القارئ إن هذا شيء معروف، لكن ما مناسبة هذا المقال الآن؟.

مناسبة المقال الحالي هو شيء مهم حدث أخيرا، وسأذكر لاحقا في المقال ما علاقتنا نحن في المنطقة به!.

ذكرت سابقا أن بريطانيا أحسنت بالخروج من الرجل المريض (الاتحاد الأوروبي)، أو كما أسميه (الاتحاد الأوروبي لجمهوريات الموز)، ليس لأن الاتحاد الأوروبي تتحكم فيه فقط دولتان هما فرنسا وألمانيا، وليس لأنه لا يملك نفوذاً دولياً، وليس لأن الأوروبيين حاليا ليس لديهم قوة عسكرية أو اقتصادية، بل ليس لديهم الرغبة والإرادة للتدخل بالعالم، ولولا الحماية الأمريكية لكان الجنود الروس يتمشون في منتصف أوروبا، والأوروبيون يبحثون عن المفاوضات من أجل المفاوضات وليس الحلول.. انظروا سياسة التنازلات لإيران، بل إن الاتحاد الأوروبي حاليا بثلاثة رؤوس، وكل رأس يتصادم مع الآخر، فلا تعرف مع من تتعامل!.. هناك رئيسة المفوضية الأوروبية، وهناك رئيس المجلس الأوروبي، وهناك الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية الأوروبية.. هل يعقل بلد بتاريخ وحضارة بريطانيا العظمى يصبح رهينة لاتحاد أوروبي لا يعرف تحديدا ما يريد أو كيف ينفذ ما يريد!.

إن المتأمل والمختص بمدرسة السياسة الواقعية في العصور الحديثة يصل إلى قناعة أن أفضل من طبق السياسة الواقعية وأبدع في دهاليزها ومكرها هم الإنجليز، مع أن الأب الروحي المظلوم لها إيطالي، لكن أساتذة المكر والدهاء في السياسة الواقعية هم الإنجليز.

قد يقول قائل إن أوروبا حاليا بوجود فرنسا (المنافس التاريخي لبريطانيا) وألمانيا ومن ورائهم دول الاتحاد الأوروبي ستنافس بريطانيا وتحجمها، ورغم أنني شخصيا أعشق باريس أكثر من لندن، لكن الحقيقة، ومن دراسة وتخصص ومراجعة لتاريخ مئات السنين بالسياسة الواقعية أستطيع القول إن الفرنسين والألمان ليسوا ندا للإنجليز بالسياسة، الإنجليز يدخلون الفرنسيين من هذا الكم ويخرجونهم من الكم الآخر.. أما الأوروبيون فأعتقد أن الإنجليز كما يقول المثل (سيلعبون بالاتحاد الأوروبي على الشناكل)، ولا زلنا نذكر كيف عامل الأوروبيون بوريس جونسون بالمفاوضات بازدراء وعلو قبل فوزه التاريخي الذي قلب الموازين، وسيرد الصاع، فالتاريخ علمنا أن الإنجليز لا ينسون.

إذا كان الإنجليز بهذا الدهاء والمكر وبعض الخبث، إذن لماذا انحدرت قوة بريطانيا العظمى؟.

الجواب ببساطة أن هذا هو تاريخ البشرية والأمم، فالدول تمر عليها موجات علو ومن ثم تنحدر كما هو تاريخ بقية الأمم، لكن أعتقد أن هناك عنصرين مهمين أيضا، وهما أن بعض السياسيين الإنجليز لعبوا بالسياسة لمجرد اللعب والمهارات لكن خافوا أن يتخذوا مواقف حاسمة، والمواقف هي التي تغير التاريخ حتى لو صاحبتها خطورة، فكانوا مثل لاعب الكرة الحريف يستعرض مهارته الفردية والتمريرات والخطط لكن لا يسجل أهدافا، أي أن بعض الإنجليز امتهنوا السياسة لمجرد إظهار مهارات وخطط السياسة وخدعها دون اتخاذ قرارات حاسمة، وقد يذكر البعض القصة المعروفة عن سياسي بريطاني سأل صديقه عن رأيه في خطاب سياسي عن موضوع معين سيلقيه لاحقا، فلما قرأ الخطاب على صديقه أجاب الصديق: يبدو جميلا لكن لم أفهم بعد هل أنت ضد أو مع هذا الموضوع؟! فرد السياسي البريطاني: هذا تماما ما أبحث عنه. وأعتقد أن هذا جبن وعدم أخذ مجازفة وعدم أخذ قرارات حاسمة، حتى لو تمكن من التلاعب وإظهار مهارته للحضور، ففي نهاية اليوم تحتاج أن تأخذ موقفا رغم كل العواقب.

العنصر الآخر لانحدار بريطانيا العظمى هو أنها حاولت تقليد أمريكا بفتح الهجرة إليها، لكن الهجرة الأمريكية كانت متنوعة مختلفة تحمل تجارب وخبرات متعددة من كل العالم، لذلك تقدمت أمريكا، بينما بريطانيا أغلب هجرتها كانت من المستعمرات السابقة التي تطبعت سابقا بالفكر والثقافة الإنجليزية فلم تضف كثيراً لبريطانيا مقارنة بالقيمة المضافة لأمريكا، إضافة إلى أن بريطانيا لديها إرث تاريخي طويل فقبول الأفكار الجديدة أصعب من أمريكا التي لا تملك هذا الإرث وتتقبل الأفكار الجديدة الخلاقة. لماذا نتكلم الآن عن السياسة الإنجليزية، لأن السياسي الحالي بوريس جونسون يختلف عن كثير من سياسي بريطانيا السابقين، فلديه الجرأة لاتخاذ القرارات الصعبة، أي أنه لا يجيد فقط اللعب والمهارات الفردية السياسية الإنجليزية، ولكن أيضا يأخذ القرارات رغم المخاطرة والعواقب، نعرف كيف استقال وعاد عودة تاريخية فيها جرأة.

الآن تسعى بريطانيا إلى إنشاء تحالفات كبرى مع أمريكا وربما الخليج وغيرهما لتعويض الخروج من أوروبا، وهو الوقت المناسب لإنشاء تحالف إستراتيجي خليجي مع بريطانيا مبني على الصراحة وأسس عملية وتفعيلها. يقال إن بعض السياسيين والأمنيين البريطانيين السابقين يعملون مستشارين بل شبه صانعي قرار، ويضعون ألاعيب وخطط المفاوضات عند دولة عربية بخصوص خلافها مع جيرانها، وهذا هدر للمهارات البريطانية، ونطاق ضيق كأنك تلعب في دوري حواري!.

على البريطانيين أن يلعبوا في الدوري السياسي الممتاز الدولي مع اللاعبين الكبار في الدول الخليجية، ولا مانع من إحضارهم للاحتراف لكن على أسس واضحة وسليمة، يعني مصلحة مشتركة، ومن الآن يجب على الخليجيين أن يعرفوا جيدا أن السياسيين البريطانيين يحبون الإمساك والاحتفاظ بالفضائح والملفات السوداء مع أصدقائهم وحلفائهم لوقت الضرورة عكس الأمريكيين الذين دائما ما يجعلون الحليف محتاجاً إليهم، بغض النظر عن ألاعيب السياسة، لكن هذا هو الواقع، ويجب أن تتأقلم معه، وهذه هي مدرسة السياسة الواقعية بعيدا عن المثاليات.

الملاحظ أني لم أذكر اسم المملكة المتحدة ولا مرة في المقال وهذا أتركه لذكاء القارئ.