قرأت مؤخرا عن مفهوم قد يكون جديدا على غيري، كما كان غريباً عليّ، عندما وقعت عيناي عليه للمرة الأولى، ألا وهو «تأثير المتفرج» أو ما يعرف بالإنجليزية بـ«The bystander effect».

وما شدني بعدما تعمقت أكثر في تعريفات ذلك المفهوم، هو أنني كثيرا ما مررت بمثل هذا الموقف، ولكن الفارق هو أنني لم أكن الصامت المتحرك، بل كنت المؤثر المتحرك.

في هذه الأيام، ومع توسع استخدامات التكنولوجيا والتواصل من خلالها، الأمر الذي على ما يبدو أنه لا حدود له ولا نهاية، أصبح من السهل -وعلى نحو متزايد- عدم الكشف عن الهوية داخل هذه المجتمعات، سواء في العالم الافتراضي أو حتى على أرض الواقع. فالخوف بات ليس من المراقبة والمتابعة لالتقاط السقطات أو الأخطاء، بل حتى الرأي أصبح محاصرا، ويفسر على حسب نوايا المتلقي. هذا إلى جانب الزيادة في توسع ثقافة المجاميع وموت الفردية، وهذا ما كنت قد تحدثت عنه في مقال سابق، حول كيّ الوعي الجمعي. المهم هنا أن كل ذلك لا يؤدي فقط إلى تفاقم ظاهرة تأثير المتفرج، بل إلى تسليط الضوء على انسحاب أو اختفاء وجود الشعور بالواجب الفردي أو المسؤولية الفردية نحو الآخر في حالة الطوارئ أو الاحتياج.

كثيرا ما كنت أمُرّ على طالبة في حالة غريبة، مثل أن تكون متأثرة وفي حالة بكاء، أو مريضة وفي حالة استلقاء في أحد ممرات الكلية، ونادرا ما كنت أجد المارة من حولها يتوقفون للسؤال أو المساعدة، ولو من باب الفضول، كما لاحظت -أيضا- أنه حينما يكون المكان شبه خالٍ من المارّة تتوقف إحداهن للمساعدة. أمثال هذين الموقفين مسجلة في ذاكرتي، ولكن لم أجد لها تفسيرا، لأنني في الأصل ما كنت أبحث عن تفسير، كل ما في الأمر أنني في أي موقف مشابه يفسر تفكيري بسرعة بأن هنالك حاجة كي أتقدم لأساعد، ولا أنظر حولي لأنتظر من سيقوم بتلك المهمة، ولكن الدراسات حول هذا السلوك في مجال علم النفس قدّمت لي التفسير.

تركز اهتمامي واشتد بعد حادثة القتل لامرأة في مكان عام ولم يتقدم أحد للمساعدة، لقد كان تفسير علم النفس حينها بأن كل فرد منهم نظر حوله ليقيّم الحالة، فوجد أنه لا أحد يهتم، عندئذٍ قرر أن الأمر لا يستحق التدخل، ولو أن الأمر حدث أمام قلة أو فرد ما، لتقدّم للمساعدة فورا، وفسر -أيضا- بأن الأمر ليس بالضرورة أن يكون بسبب قلة الاهتمام، ولكنه يعود إلى تأثير المجاميع من حول الفرد، والخوف من أن يفسر التحرك بأنه تدخل.

يعزو معظم الدارسين هذه الظاهرة أو هذا السلوك إلى مبدأ نشر أو توزيع المسؤولية، وإلى الافتراض بأنه بما أن هنالك أشخاصا آخرين حول المحتاج أو الضحية، فشخص آخر سيتحرك ليتدخل ويساعد، ويعزو آخرون هذه الظاهرة إلى ضغوط النظراء الاجتماعية، كيلا يتدخلوا إذا لم يقم أي شخص آخر بالمساعدة.

عندما واجه النبي موسى -عليه السلام- رجلين يقتتلان، أحدهما ينتمي إليه، والآخر ينتمي إلى الفئة الأخرى، فكّر ثم قرر أن هنالك من يحتاجه، فتقدم وتدخل ليحسم الأمر، بالطبع لم يكن يقصد قتله، ولكن هذا ما حدث، والقضية هنا أنه كان أمام موقف، بمعنى أنه كان في مكان لم يتقدم فيه أحد للمساعدة، وهذا الدرس يعلمنا أن نسعى جاهدين إلى نكون شخصا ما، في مكان لا يتقدم فيه أحد، لنتقدم نحن ونُفعِّل صوت الضمير.

وهذا يتسق تماما مع ما جاء في حديث سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- حين قال: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى».

ونحن نعلم أن الله هو رب العالمين، وهو الرحمن الرحيم، وبهذا أيضا يضيف إلينا أن المساعدة يجب أن تكون أيضا لبقية خلق الله من البشر.

في الختام، أكرر بأنه في مكان لا يوجد فيه أحد يتقدم إلى الأمام للمساعدة، علينا أن نكون نحن ذلك الشخص، فنتحرك ونكون صوت مَن لا صوت لهم، فلنقدم المساعدة عند الحاجة، ولنكن السباقين في كل ما نقوم به، وعندما يكون الكثيرون ممن هم حولنا عديمي الاهتمام، وقد يتصرفون باللامبالاة، فإن الأمر حينها متروك لنا لاختيار طريق المسؤولية، وأن نصبح أصحاب الهوية بين من يخاف أن يظهر هويته، فطريق الإنسانية لا يمهدّ بالاختباء والتخفي، ومن يدري لعلّ تحرّكنا يشجع الآخرين على إحداث التغيير معنا، ونصبح بالتكرار مجتمعا متكاتفا قولا وفعلا، بدلا من ترديد الشعارات الفارغة والأقوال المأثورة، وأبيات النخوة من قصائد الأولين فقط.