كثُر الحديث مؤخراً عن بلاغات (العقوق) و (التغيب)، وتناول الناس في أحاديثهم جوانب عديدة لا تخلو من التساؤل حول الرأي القانوني الخاص بهذه البلاغات. كما لا يخلو حديث العقلاء من مطالبات بإعادة النظر في هذا النوع من القضايا.

والحقيقة أنه ربما يجدر بنا تحرير المصطلحات شرعيا وقانونيا؛ لنتمكن من إعطاء أسباب التجريم لفعل بعينه وترتيب عقوبة على ارتكاب هذا الفعل.

وبالعودة لمصطلح (العقوق) نجد أنه مصطلح هلامي غير واضح المعالم، فلا يمكن قياس حدوده أو الآثار المترتبة عليه أو صفة أطراف الدعوى، فهل يثبت فعل العقوق بالإساءة اللفظية أم الجسدية، أم بعصيان رغبات الأهل وأوامرهم أيا كانت حتى إن خالفت ما يراه الابن حقا من حقوقه، كاختيار مكان معيشته أو شريكة حياته أو دراسته أو مهنته.

لكن لنعد لمصدر التشريع وهو القرآن الكريم الذي نهى عن زجر الأبوين بكلمة (أف)، وعدّ هذا ضربا من العقوق وسوء الخلق، إلا أنه في الوقت نفسه لم يترتب على هذا الذنب عقوبة دنيوية أو حد القصاص أو الكفارة. ويفهم من هذا أن الشريعة تناولت موضوع العقوق ضمن الأخلاقيات والسلوك الإنساني والاجتماعي، وليس ضمن الجرائم والأفعال التي تستوجب الردع أو التعزير أو الاقتصاص. وحث القرآن بالمقابل على بر الأبوين والإحسان إليهما كواجب أخلاقي وروحاني يبتغى به مرضاة الرب.

وبالتالي فإن استنباط قانون يصنف العقوق كفعل جنائي، هو استنباط خاطئ شرعا، كما أنه مدعاة لزيادة الوضع سوءا وتوترا بين الآباء وأبنائهم. والأفضل في رأيي هو أن توجه مثل هذه الحالات للمراكز الاجتماعية لتقديم استشارات نفسية وإرشادات أسرية للآباء وأبنائهم؛ حفاظاً على روابط المجتمع، ومنعاً لاستغلال ثغرات القانون في أعمال انتقامية مؤذية.

وفي جانب آخر، يأتي موضوع (التغيب) وقد يعد البعض التغيب نوعا من العقوق فتصبح المسألة أكثر تعقيدا.

وللأسف، فإن التغيب أيضا مصطلح غير منضبط لا شرعيا ولا قانونيا، وقد جرى الإسراف في تطبيقه خاصة على النساء، فأصبح حقا مكتسبا لولي الأمر مهما بلغت المرأة من العمر. المفارقة هنا هي أنه من الناحية الشرعية لا تجد أي تأصيل لهذا الأمر، ولا يعرف كيف تم الاستدلال عليه!.

والأمر الطبيعي أن المرأة والرجل أحرار في الخروج من مسكن الأب ما لم يوجد مسبب قانوني يوجب استمرار ولاية الراشدين عليهم، كصغر العمر أو الإصابة بأمراض عقلية أو نحو ذلك.

وخلاصة القول إن هذه الأفعال لا يمكن تجريمها ما لم نتمكن من إسنادها بوضوح لنص شرعي أو مسبب قانوني، وبالتالي فإنها لا تتجاوز أن تصنف ضمن المشاكل الأسرية التي لا ينبغي أبدا إشغال السلطات بملاحقتها، فضلاً عن أنها تحولت بالفعل إلى ثغرة قانونية تم استغلالها سياسيا وإعلاميا من جهات كثيرة معادية لبلادنا. من هنا فإنني أدعو بشدة إلى رفع حالات العقوق والتغيب من قائمة أقسام الشرطة، وتحويلها إلى مراكز الخدمة الاجتماعية، وإعادة النظر بأثر رجعي في جميع القضايا الاجتهادية المشابهة.