كانت الأمور في الجيل الماضي، بسيطة وواضحة، سواء في الوسائل أو الغايات. كانت الدولة مهما ارتدت من ثياب الديموقراطية الغربية ليست أكثر من جهاز القهر الملكي الاستعماري البرجوازي. وكانت الثقافة في خطها العام مجرد «رد فعل» للحضارة الأوروبية من ناحية، وللتراث العربي من الناحية الأخرى. وكانت الأحلام الفكرية للأجيال الثلاثة السابقة على حركة يوليو 52 لا تكاد تتجاوز الحلم الليبرالي عند جيل الرواد والحلم الاشتراكي الديمقراطي عند الجيل الذي يليه، والحلم الماركسي عند الجيل السابق علينا مباشرة. وهي في مجموعها أحلام الثقافة الأوروبية، كرد فعل للتخلف الحضاري المرعب. وانعدام التقاليد الديمقراطية في أسلوب الحكم. وقد مضت في خط سيرها، جنبا إلى جنب مع الأحلام اليمينية المتطرفة كرد فعل مذعور أمام الحضارة الوافدة. على أن الأحلام الفكرية عموما، يسارا أو يمينا، لم تكن مرد ردود أفعال تلقائية عند بعض الأفراد المثقفين، وإنما كانت قبل ذلك وبعده تجسيدا عميق الدلالة لآمال الطبقات المهيمنة على السلطة، أو الطبقات المقهورة. وهذا ما يمنحها صفة الأصالة، بجانب استيرادها هذا الفكر أو ذاك من هنا وهناك.. فليست القضية كسلا عقليا دفع بفريق ناحية الفكر الغربي وبفريق آخر ناحية التراث، وإنما كانت هناك هوة عمرها حوالي ألف سنة تفصل بين قمة ازدهار الحضارة العربية وبين اقتحام الحضارة الحديثة لكياننا الروحي والمادي على حد سواء، وقد تسببت هذه الهوة الغائرة بظلمتها في وجداننا أن يتلمس مثقفونا الأوائل ركائز رفضهم أو قبولهم للحضارة الجديدة في أقرب وسائل الإنقاذ. وكانت الثقافة الأوروبية هي الوسيلة المثلى لمن تقبل هذه الحضارة، وكانت الثقافة العربية هي الوسيلة المثلى كذلك لمن رفضها.

ولم يكن ذلك يتم بمعزل عن العصر الذي عاشوا فيه. وهو العصر الذي شهد حربين عالميتين اختتمتا بتفجير الذرة، كما شهد ميلاد أول ثورة اشتراكية ناجحة في التاريخ، وانبثاق نظام اشتراكي عالمي. أي أنه العصر الذي حقق انتصارا حاسما ضد أعداء الديمقراطية. وذلك عن طريقين: أحدهما الطريق البرجوازي التقليدي. والآخر هو الطريق الاشتراكي الجديد.

وقد انعكس هذا الصراع بالضرورة على خريطة الأحلام المصرية انعكاسا واضحا لا لبس فيه.

ولو أننا أمسكنا بالاتجاه «المتقدم، على طول تاريخنا الأدبي الحديث فاليمين المصري لم يقدم إنجازات يعتد بها في هذا الميدان فإننا نلاحظ تطورا طبيعيا وخطأ منطقيا يبدأه جيل الرواد بالفكرة الديموقراطية التي تمتد عنها الفكرة الاشتراكية الديمقراطية عند الجيل الأوسط، حيث يؤدي بدوره إلى الفكرة الماركسية عند الجيل الثالث. ولا يعني ذلك أن «التطور، كان يمضي هكذا في خط مستقيم وبصورة تلقائية، فقد نجد بذورا لإحدى المراحل في أحشاء مرحلة سبقتها ولكنها لم تزدهر وتصبح تيارا، لا استثناءات فردية إلا في زمن لاحق. على أن هذا لا ينفي أن كل جيل كانت له محطة وصول كما كانت له نقطة انطلاق، ويكاد أن يكون متوسط عمر الجيل الأدبي في مصر عشر سنوات، بالرغم من كل ما يمكن إحصاؤه من تعرجات ومحفظات، فجيل منتصف العشرينات الذي يعد «الديوان» و«في الشعر الجاهلي» و«اليوم والغد» ثمرته الأولى قد ألقى مراسيه الفكرية في منتصف الثلاثينات، وكانت معاهدة 36 بالنسبة له بمثابة تاريخ النهاية. وكذلك جيل منتصف الثلاثينات بلغ ذروة تقدمه في منتصف الأربعينات أو حواليها كما تدل مؤلفات «النقد المنهجي عند العرب» و«الميزان الجديد» و«بلوتلاند» و«في الأدب الإنجليزي»، ولا يختلف الأمر عند جيل منتصف الاربعينات الذي كان عام 46 هو شهادة ميلاده، فقد عرف قمة ازدهاره عام 56 قبلها بقليل وبعدها بقليل في «الناس اللي تحت» و«الأرض»، و«أرخص ليالي» «والناس في بلادي» و«في الثقافة المصرية»، وقد كانت الملاحظة الرئيسية على هذه الأجيال هي أنها في تطورها الفكري تكاد تلتزم بخط تصاعدي، وأنها في تطورها الزمني تكاد تلتزم بحلقة السنوات العشر، وأنها وهذا هو الأهم ترتكز دائما على منهج متكامل ونظرية متماسكة.

فسواء أكانت الفكرة ليبرالية أو اشتراكية ديمقراطية أو ماركسية، فإنها منقولة ومؤصلة - معا وفي وقت واحد- عن بناء فكري مترابط ومتسق ومنطقي إلى أبعد حد، وكان الزمن المحلي والعالمي يتجاوز بعنفه وضراوته مختلف الأبنية والأفكار.

فتتزعزع أركان هذه النظرية أو تلك، وتقتلع رياح التطور جيلا من الأجيال من موقعه الرائد للحركة الاجتماعية، لتحل مكانه جيلا آخر أكثر قدرة على الريادة، سواء باستجابته للتغير الاجتماعي أو بقناعة فكرية خاصة لمنطق التاريخ. وهكذا كان يحدث ما نسميه بنقاط التحول التاريخية، فيصبح الرائد التقدمي محافظا، ويولد من أعماق الصراع الاجتماعي جيل جديد، لا يلبث أن يتحول بدوره إلى جيل حافظ وهكذا. ولا ضرورة للتخطيط باللون الأحمر تحت الشذوذات الفردية على هذا القانون العام.

* 1969

غالي شكري

كاتب وناقد مصري (1935-1998)