ذات مرة ولج أحد الأعراب القادمين من أعماق تهامة ‏منزله، ظانًّا أنه مطعم من المطاعم التي سمع عنها في ‏المدن. قدم له الشيخ طعاما شهيا لم يألفه، وحين فرغ ‏من الأكل سأل الشيخ: كم الحساب؟. أدرك الشيخ أن ‏الرجل يظن نفسه في مطعم، فمازحه قائلا «الحساب ‏آخر الشهر». انصرف الرجل مسرورا بهذه المهلة ‏الطويلة، وربما لن يراه الشيخ بعدها.‏

باب الكرم

مشهد بسيط في مبناه، آسر في معناه، يختصر سيرة ‏رجل كثير من الناس عرفوه، ليس من قضايا ومتابعات ‏الهيئة، ولكن كرمه الذي يفوق الوصف، كان ملمحا ‏وضاء، من بين سجاياه التي طرز بها مسيرة حافلة، ‏خط سطره الأول في مدينة الهلالية بالقصيم. لا غرابة ‏أن يرتاد منزله الناس طلبا للطعام أو القهوة، أو حتى ‏للمبيت، حين لم تكن الفنادق قد عرفت وقتذاك. كان ‏الغرباء يشاهدون بابا مفتوحا، وأناسا ترتاد المكان، حتى ‏ظنه بعض الناس مكانا عاما مشاعا، لم يدر بخلد أحد ‏منهم أنه منزل خاص، لكن صاحبه رجل مضياف، يفرح ‏بقدوم الضيف أكثر من فرح الضيف بوجود المأوى ‏والطعام، والحساب آخر الشهر. ‏ كانت المنطقة يرتادها زوار ومسؤولون، يقدمون إليها ‏لمتابعة أعمال بعض الإدارات الحكومية، أو للتفتيش. لم ‏يكن لهم من مأوى سوى منزل الشيخ، يقيمون فيه حتى ‏تنقضي مهامهم، وكأنهم يقيمون في منازلهم، الشيخ ‏يقوم على خدمتهم، يصنع لهم القهوة، ويقدمها لهم ‏بيده. ‏

لا جفوة ولا غلظة ‏

لم يكن «عبدالله بن صالح العواد» محدودا بمحيط ‏عمله، ولا محصورا في نطاق صداقاته الخاصة، بل ‏‏(رجل عامة) يعرفه الكبار والصغار، ويسمع به ‏المقيمون والزوار، ليس حبيس داره كما يفعل كثير ‏ممن يتسنمون مناصب قيادية، بل شاخص دوما، حيثما ‏نظرت وجدت (العواد) ماثلا أمامك، إن لم يكن ‏بشخصه، فبمآثره الطيبة، وأعماله النبيلة، وسمعته ‏الحسنة، رغم أنه يقود جهازا حساسا، جهازا ينهض ‏برسالة البناء والإصلاح، وفي الوقت ذاته يتصدى ‏لحالات الانحراف والإفساد، فلا غرابة والحالة هذه، أن ‏يكون له حساد وأعداء ممن لا يريدون لأحد أن ينجح ‏في عمله، أو يتصدى لتقويم معوجهم، إلا أن الأمر الذي ‏لا ينقضي منه العجب، أن الرجل استطاع أن يكسب ‏الجميع لا إلى شخصه فقط، بل حبب جهاز الهيئة إلى ‏الناس جميعا، حتى إن كثيرين ممن تراودهم وساوس ‏الفساد والانحراف، يحجم عن ذلك حبا في الرجل ‏وحياء منه، واحتراما للجهاز الذي يرأسه، بحكم ما وفق ‏إليه من حكمة وصبر ولين ورفق في معالجة النفوس، ‏والتغلغل في زواياها، حتى يستل منها عنصر الشر ‏والفساد، دون تعنيف أو تأنيب، أو جفوة وغلظة، فلا ‏غرابة في أن يوصف بأنه (صديق الجميع)، وأن تتصدر ‏‏-كما عرفه الناس- أي ترجمة له. ‏

نهج العواد نهج الرواد ‏

من يتتبع سيرة العواد يدرك أن الرجل كان يسير في ‏عمله الدعوي والإصلاحي، وفق ثوابت اختطها لنفسه، ‏استقاها من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسار ‏فيها على نهج السلف الصالح، لذا لازمه التوفيق في ‏سائر أعماله، ورافقه النجاح، مما جعله يبقى في رئاسة ‏هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دهرا طويلا، ‏وزمنا مديدا. ‏

في مجال استصلاح من وقع في بعض المعاصي ‏والمفاسد، انتهج الرجل استثارة الفطرة، وتفعيل ‏الخطاب العاطفي الذي يستجيش كوامن الخير في ‏النفوس، فاستجاب كثيرون لهذا النداء الفطري. ‏استلهم العواد وهو يدعو إلى الله، ويوجه الناس نحو ‏الخير والصلاح، «الرفق أجلا»، نهج رفيع كريم، إرث ‏من إرث النبوة، فتتجاوب النفوس مع هذا الأسلوب ‏السمح المحبب، الخالي من التقريع واللوم الشديد، ‏حيث يستشعر المتلقي حنان الأبوة يتفايض، والصدق ‏يتدفق من كلمات العواد.‏

الأصل والفرع

‏«كل الناس حملة رسالة» من أصول الحكمة التي ‏انتهجها العواد، أن يحرك الناس كل الناس، ليكونوا ‏شركاء الهينة، في النهوض بالمستوى الأخلاقي ‏للمجتمع، وتدارك ما قد يقع من بعض الأفراد من ‏الانحرافات والجنوح، الهيئة جزء من المجتمع، وليست ‏وصية عليه، والمجتمع داعم لرسالة الهيئة، وليس ‏مناوئا لها، هكذا قاد الرجل عمله بمهارة واقتدار، ‏ووظف طاقات اجتماعية كثيرة وقامات إدارية مهمة. ‏

بعمق البصيرة، وحنكة المجرب، أدرك أن كل مشكلة ‏تقع لها أصل تنطلق منه، وفرع يظهر للناس، ما إن ‏تعرض عليه مشكلة حتى يرجعها إلى أصلها، ثم يبدأ ‏معالجة الأصل، وبالضرورة إذا عولج الأصل سيذبل ‏الفرع ويتلاشى تلقائيا.‏

بنات الحي

حدث أن مجموعة من سكان بعض الأحياء تقدموا ‏بشكوى للهيئة مفادها كثرة السيارات التي ترتاد الحي، ‏وتزعج الناس، لم يبعث الشيخ رجاله ليتصدوا لهؤلاء ‏الشباب المزعجين. بحكمته المعهودة، بحث عن السبب ‏الذي يدفع الشباب لارتياد الحي، قاده البحث والتتبع إلى ‏أن أحد السكان لديه عدد من البنات المؤهلات للزواج، ‏ولكن والدهن يحول بينهن وبين ذلك، يرد الخُطّاب بلا ‏مبرر. استدعى الشيخ والدهن، حاوره بهدوء، وسلاسة ‏ولطف مشهود، حتى أقنعه بتزويج البنات من أكفائهن. ‏اقتنع الرجل، وبدأ يبحث عن الشباب الذين سبق أن ‏تقدموا له ورفضهم، تزوجت البنات، وحلت عدة ‏مشكلات، العنوسة، والإزعاج، وأوصد باب كاد يفتح ‏لفساد الأخلاق. كانت سيرة العواد -رحمه الله- ‏واستقامته وصلاحه، في قيادة جهاز الهيئة في عسير، ‏أعظم أثرا في الناس الذين تعامل معهم، إصلاحا ‏واستصلاحا، فكان التزامه بما يدعو الناس إليه مثار ‏إعجاب، وباعث استجابة، ودليل هداية. ‏

الستر

يقع بعض الناس في خطايا وزلات، فكل بني آدم خطاء، ‏بيد أن من الناس من يفرح بالقبض على العاصي، ‏وتأديبه علنا أمام الناس، وكأنه يرى ذلك غاية ‏الانتصار، الشيخ العواد كانت نظرته مختلفة تماما، ‏كان يتألم عندما يسمع عن إنسان ارتكب محظورا، ‏ويعلم أن المعصوم من عصمه الله، وأن العبد قد يقع في ‏الخطيئة بحكم جبلته، فالجنة حفت بالمكاره والنار ‏حفت بالشهوات. كان إذا علم بأحد مقيم على معصية ‏يدبر من يعلمه من طرف خفي بأن الهيئة علمت بأمره، ‏وأنها قد تقبض عليه في أي لحظة، حيث يبادر العاصي ‏إلى التخلص من أي أثر لمعاصيه. يذهب الشيخ بعدها ‏للعاصي بنفسه يفتشه وقد علم خلوه من أي أثر، ثم ‏يحمد الله علنا أنه لم يجد مما قيل عن الرجل شيئا، ‏ويتنفس الرجل الصعداء أن انكشفت هذه الغمة، دون أن ‏يلحقه عارها وجزاؤها، وتكون تلك اللحظة بداية توبة ‏وإنابة وصلاح. هذا غاية ما ينشده الشيخ: أن يتوب ‏الناس ويقلعوا عن المعصية، لا أن تنالهم العقوبة، ‏ويلحقهم العار والتشهير، والشيخ يعلم أن الإنسان إذا ‏انكشف عيبه، وافتضح أمره يستسهل المعصية بعد ذلك، ‏ويسقط عنه قناع الحياء، فكان يتحاشى إيصال الناس ‏إلى حال المجاهرة والمكابرة والإصرار. ‏

مداهمة نبيلة

جاءه نبأ موظفين يجتمعون ليلا على منكرات في إحدى ‏المزارع، فنهض بنفسه وذهب إلى مكانهم، طرق عليهم ‏الباب فلما نظروا وعلموا أن القادم رئيس الهيئة، وهم ‏يعرفونه شخصيا، طار صوابهم واعتراهم من الخجل ‏والخزي ما لا يقدر قدره، فما كان منهم إلا أن رفعوا ‏من كان بين أيديهم من دلائل الفساد، وهو ما جعل ‏الشيخ ينتظر بالخارج قرابة ربع ساعة، حتى فتحوا له ‏الباب فدخل وسلم على الجميع، وكأنه زميل جاء ‏يشارك زملاءه سمرهم، وبعد أن اطمأن به المكان ‏وسكنت نفوس القوم، قال لهم: تعسر عليّ نومي هذه ‏الليلة وضاق صدري، وعلمت أنكم مجتمعون هنا، فقلت ‏لنفسي سأذهب للزملاء وأشاركهم سمرهم، وأعتذر إذا ‏كنت أتيتكم على غير موعد، ولكني عددت نفسي بين ‏إخواني وأحبابي، فاجترأت على زيارتكم بلا موعد، ‏فرحب به القوم غاية الترحيب، رغم علمهم أن الذي ‏جاء به غير هذا، ولكن تقديرهم لنبله، جعلهم يعلمون ‏أن هذا من الشيخ انتشال لهم من وهدة الفسوق ‏والعصيان، وبعد مسامرة لبعض الوقت دعاهم الشيخ ‏لتكون الأمسية القادمة في منزله، استجاب القوم لطلبه ‏حياء، وكانت لحظة فارقة في حياتهم، حيث يقسم ‏أحدهم، «أننا بعد ذلك ما اجتمعنا على شر وفساد»، ‏فيا لها من حكمة وحسن تصرف، يكشف عن نبل ‏وكرم. ‏

نهاية المطاف الأول‏

بعد عناء السنين، ومكابدة مشوار الإصلاح، ترجل ‏الفارس الكريم كريما، تنحى مبجلا محبوبا، فاستراح ‏من الوظيفة، لكنه لم يترجل عن مهمة الإصلاح، لأنها ‏تجري في دمه، وتخالط روحه، فظل آمرا بالخير، داعيا ‏إليه، موئِلاً لكل طالب هدى أو باحث عن رشاد. ‏

تقاعد الشيخ العواد من عمله الوظيفي في العام الثاني ‏عشر بعد الأربعمئة وألف للهجرة، واعترافا من أعلى ‏سلطة إدارية في المنطقة بفضل الرجل، وتقديرا ‏لجهوده، كان أمير المنطقة حينها الأمير خالد الفيصل، ‏على رأس المحتفلين بتكريم الشيخ، في ليلة مشهودة، ‏ومحفل مهيب، ولا غرابة أن يصرح الأمير في تلك ‏المناسبة، أنه طيلة مدة رئاسة الشيخ للهيئة لم ترفع ‏إلى الإمارة قضية واحدة، بل كان الشيخ يعالجها بغاية ‏الحكمة والصبر. ‏

سيرة

-ولد الشيخ عبدالله العواد عام 1333 في الهلالية ‏بالقصيم ‏

-تلقى علوم الشرع على يد عدد من أشياخ وقته ‏

-اعتنى بحفظ القرآن الكريم ودراسة السنة النبوية ‏

-حاز قدرا كبيرا من الفقه في العبادات والمعاملات ‏

-اهتم باللغة العربية وآدابها ‏

-بدأ حياته بأعمال جهادية شارك فيها مع الملك فيصل ‏في بعض العمليات العسكرية التي قادها ‏

-عمل مع فرقة (الهجانة) التي كانت تجوب البلاد آمرة ‏بالمعروف، ناهية عن المنكر ‏

-عمل في (شركة الزيت العربية الأمريكية) (أرامكو)

-‏أعير لشركة (التابلاين) ‏

-عاد لهينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ‏القنفذة عام 1372 ‏

-انتقل في منتصف عام 1377 إلى رئاسة هيئة الأمر ‏بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة عسير