يتطلع البعض إلى ديمقراطية تحاول الجمع بين القيم الأساسية العليا للدين بقراءة حديثة «كالعدل والحرية والمساواة وسيادة القانون واحترام رأي الأفراد وحرية التعبير... إلخ»، وبين دولة مدنية حديثة تعبّر عن آمال الناس وطموحاتهم.

وهذه الدولة المدنية «العلمانية»، بلا شك تمنح الأفراد الحقوق والضمانات الاجتماعية، ولكنها -للأسف- في الوقت نفسه قد تجعلهم عرضة لأن يكونوا ضحايا لمصالح ومنافع كبرى، قد تتحد ضدهم أو أن يمارس هؤلاء الأفراد الدكتاتورية والاستبداد تجاه الآخرين!.

ولأن التغيير الحقيقي لأي مجتمع للوصول إلى الديمقراطية، لا يتم إلا بتغيير ما بداخل أفراده -وحسب التوجيهات السماوية «إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» الرعد 11- من خلال تبديد الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي، فقد جاء الإسلام وزرع في الشخصية المسلمة قيما عليا تفوق كل القيم والاعتبارات الاجتماعية والسياسية، التي تعبّر عنها البلدان التي تسعى إلى الديمقراطية، من خلال ما هو منصوص في دساتيرها، ويجب ألا ننسى أن إرادة الإنسان وسلطته لا تنحصران في قيم ومعايير المدنية، التي تقرر أن الحياة ليست سوى مجال لتبادل المنافع المادية، متجاهلة الغيب وما بعد الموت من حساب، ولكن القيم الحقيقية للديمقراطية في الإسلام، هي تلك التي تجعل الإنسان حرّا مكرّما، كما قال عنه خالقه عز وجل: «ولقد كرمنا بني آدم...» سورة الإسراء 70. لا يرضى بالذل والإهانة والظلم من خلال شعور ديمقراطي تجاه الـ«أنا» والآخرين، ومن خلال شروط ثقافية اجتماعية وأسباب تاريخية مهمة، تولّد هذا الشعور في نفس الإنسان، في عملية تنظيمية تكاملية -كما ذكرت- تحفظ كرامته وتكفل حقوقه مع غيره من البشر.

لذلك، فالآمال والطموحات التي تتطلع إليها المجتمعات للوصول إلى الديمقراطية وإلى الدولة المدنية الحديثة، هي في حقيقتها مغروسة في الضمير المسلم، بتكريم رباني وشعور إيجابي يسيطر عليه، ليقدر قيمة ذاته وقيمة غيره، كي لا يقع في هاوية العبودية أو الاستعباد، والتي حاولت البلاد الغربية أن تتخلص منها، من خلال الحركات الإنسانية عبر القرون، متمثلة في عصر النهضة الحديثة، ابتداء من الثورة الفرنسية وما جاء بعدها.

والديمقراطية والوصول إليها لا يمكن أن تتحقق بحال من الأحوال من خلال دستور شكلي، لا يراعي شروطها وعناصرها الثقافية المكونة للشخصية الإنسانية وسماتها، بعاداتها وتقاليدها وأبعادها النفسية والسلوكية، وبكل شعورها وانفعالاتها ومقاييسها الذاتية والاجتماعية، التي ترفع من قيمة الإنسان وقدره مجددا، بعدما تلوث برواسب الذل ودوافع الظلم وقهر العباد.

وفي النصوص القرآنية والأحاديث النبوية إشارات ومقدمات ومبادئ تؤسس للديمقراطية على أصولها، وتؤكد تكريم الإنسان في كل ما يتعلق بشؤونه اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، والتي تجاوز بها كل القوانين والدساتير الوضعية في بعض البلدان، التي تسعى إلى تحقيق المدنية كقضية الرقّ والتمييز وموضوع الصدقات والزكاة، وتحريم الربا وعدالة القضاء، وكذلك في حرية التعبير والعمل والتنقل، وحماية الحرية الفكرية والعقدية، وحتى في جانب الحكم من مبايعة ومبدأ للشورى.

وهذا التكريم الرباني -بلا شك- هو ترجمة حقيقية لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتي تظهر نتائجها الإيجابية الملموسة اجتماعيا على أرض الواقع واضحة للعيان.

إذن، هي مبادئ ونظريات وحقوق طبيعية كفلها الخالق -عزّ وجلّ- للمخلوق بعكس الضمانات والقوانين المدنية الوضعية التي -كما ذكرت- قابلة للمصالح والمنافع البشرية عندما لا تفعّل نصوصها ودساتيرها، وذلك بلا شك يؤدي إلى أزمات اجتماعية نتيجة توحش الأنظمة المادية بأشكالها الرأسمالية.