نُشر في صحيفة «الوطن» السعودية يوم 13 فبراير تقرير عن التقرير السنوي لمعهد لاودر لبحوث السياسة الخارجية في جامعة بنسلفانيا، الذي تحدد فيه أفضل مراكز الفكر حول العالم، وتقدم تصنيفا لأفضل مراكز البحوث الفكرية في بعض التخصصات. أشار هذا التقرير إلى أن عدد المراكز البحثية المصنفة في المملكة خمس مراكز مقارنة مع 67 مركزا بحثيا في إسرائيل و64 في إيران و65 في تركيا و22 في اليمن و31 في العراق، إلى آخر القائمة التي تبين أن المملكة تقع في ذيلها بالرغم من وجود ما لا يقل عن 100 مركز بحثي متخصص في الجامعات السعودية. وهذه النتيجة التي تبين قلة المراكز البحثية المصنفة دوليا تعد صادمة للمهتمين والمدركين لأهمية المراكز البحثية والفكرية في تطور الدول ونهضتها في مختلف الجوانب، أي أنها تتعدى كونها ضرورة علمية ومهنية إلى كونها ضرورة تنموية وحضارية وفكرية تؤثر على سياسات الدول واقتصادها، وتسهم بدور إيجابي في عملية التطور والنهضة.

تكمن أهمية وجود مراكز بحثية مختصة في وقتنا الحالي لعدة أسباب منها أهداف رؤية المملكة 2030 التي تهدف من جهة إلى زيادة القدرة التنافسية للمملكة وتصنيف جامعاتها لمراكز عالمية متقدمة، وهو الأمر الذي يتطلب دعم البحث العلمي والمراكز المعنية به وبالدراسات المرتبطة حوله. ومن جهة أخرى أنه واكب هذه الرؤية المباركة تحديات خارجية كبيرة وتغييرات داخلية متسارعة، وهما أمران يتطلبان تقديرا يوميا للمواقف والأحداث المرتبطة بالمملكة خارجيا أو محليا، وتدوين وجمع للمعلومات وتحليلها، وبناء دراسات وتوقعات وتصور دقيق لصيرورة الأحداث ما قد ينجم عنها من قرارات وإجراءات تتخذها الجهات ذات العلاقة. هذا الرصد والبحث والتحليل هي مهام أساسية لمراكز البحوث والدراسات، وهذه المراكز ارتبطت بحكم التخصص بالجامعات، وأصبح لدى الجامعة الواحدة عدد من المراكز البحثية المرتبطة بعمادات البحث العلمي والكراسي البحثية من خارجها.

بالنظر لعدد الجامعات السعودية لدينا وما لديها من مراكز بحثية ومع التقرير الأخير المشار إليه في بداية هذا المقال، فإننا نلحظ أنها جميعا خارج التصنيف العالمي؛ وهذا يقودنا للتساؤل عن ماذا قدمت الجامعات السعودية لمنسوبيها وللمجتمع من خلال هذه المراكز؟ وما الفائدة المتوقعة التي قد نلمسها كوطن ومواطن من هذه المراكز البحثية التابعة للجامعات خلال الفترة القادمة؟ وهل تمتلك هذه المراكز البحثية الملحقة بالجامعات استقلالا فكريا وماديا؟

إننا حينما نحمّل الجامعات مسؤولية قصور البحث العلمي والدراسات البحثية المتعمقة في قضايا المجتمع دولية كانت أو تنموية واقتصادية أو اجتماعية وحضارية أو ثقافية وفكرية، فلأن الجامعة عالميا في كل مكان تعد منارة التعليم والتنوير والتطوير، وتخرج مسؤوليتها عن التعليم والتلقين التقليدي إلى المساهمة في عملية التطور الحضاري للدول واعتبارها «Think Tanks» لكل مدينة توجد فيها تسهم في استشراف المستقبل ورصد الاحتياجات وطرح الحلول والأفكار والمشاريع التي تواكب وتدعم مشاريع الدولة ورؤيتها الداخلية والخارجية وتتناسب مع ثقلها في العالم.

في ديسمبر 2003 وأثناء انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلوماتية في جنيف؛ تعمّد الرئيس الإيراني آنذاك محمد خاتمي النزول من غرفته في مقر إقامته لاستقبال الرئيس المصري حينها محمد حسني مبارك، ودام لقاؤهما لمدة تزيد عن الساعة الكاملة، وصف مبارك بعده علاقة مصر مع إيران «بالطبيعية» علما بأن العلاقة كانت بين البلدين مقطوعة منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979. هذا اللقاء الذي تعمده خاتمي لكسر الجمود بين البلدين كان بعد أن اطلع الرئيس الإيراني على ورقة بحثية سياسية لأحد الباحثين الإيرانيين مختص في الشؤون المصرية، كان يوصي فيها بضرورة عودة العلاقات مع مصر وهذا ما تم بالفعل. وكذلك تعيين جواد ظريف وزيرا للخارجية الإيرانية إبان تولي حسن روحاني لرئاسة إيران عام 2013 كان بناء على توصية بحثية من أحد المراكز البحثية العديدة في إيران. هذا المثال يخبرنا أن تحركات كثير من الدول خارجيا وداخليا تتم وفق ما تأتي عليه تلك الدراسات من حقائق وتوصيات واستشراف للمستقبل، ويجب أن تقابل بما يتفوق عليها من الدقة والصرامة العلمية.

ونحن كدولة تنعم بمزايا بشرية كبيرة وميزانيات تعد الأعلى تخصصا للتعليم، تخصص منه ميزانيات ضخمة وإمكانات بشرية ومكانية للمراكز البحثية من الأولى أن يصبح الجهد في هذا المجال مضاعفا ومركزا وموجها لصالح الوطن وتحقيقا لرؤاه. ولعل مجلس شؤون الجامعات المعلن منذ أسابيع قليلة يضع الدراسات البحثية والفكرية في الجامعات في أولوياته، بحيث تسند لكل جامعة دورا بحثيا وفكريا يركز على النواحي المختلفة للوطن: (دولية - تنموية - اقتصادية - ثقافية - اجتماعية - حضارية - فكرية)، وأن تمنح هذه المراكز استقلالية فكرية ومادية تساعد على تحقيق أدوارها المطلوبة. كما ينبغي أن تؤصل قيمة البحث العلمي في التعليم العام كممارسة ومهارة تعليمية منذ الصفوف المبكرة، واعتماده كمقرر رئيسي يتناسب مع المراحل الدراسية بدلا من كونه نشاطا إضافيا، ليتعلم النشء منذ الصغر الرصد والمقارنة والتحليل والتفكير خارج الصندوق، واقتراح ما يناسب معطيات كل وقت، وما يخدم وطنه ومجتمعه وذاته بشكل منطقي وعلمي لائق.