لم يجد الداعية محمد العريفي حرجا في أن يحزم حقائبه مغادرا القاهرة إلى لندن، بعد أن فرغ من خطبته الشهيرة التي ألقاها في جامع عمرو بن العاص، وهي الخطبة التي حض فيها الشباب على الجهاد وبشر فيها بالخلافة، مؤكدا لمن يستمعون إليه أنه يراها رأي العين.

خصوم الداعية الذين كانوا يأخذون عليه ما كانوا يرون في خطبه ومحاضراته تشددا وخطرا على الشباب الذين كان يحرضهم على الخروج إلى القتال، هؤلاء الخصوم وجدوا فيما فعل مستمسكا عليه، فراحوا يشنعون عليه ما رأوه من تناقض بين دعوته الشباب للخروج إلى الجهاد، في الوقت الذي اختار لنفسه الأمن الذي توفره فنادق لندن لزوارها وحدائق لندن لمرتاديها، غير أن الكشف عن ذلك التناقض لم يكن ليؤثر في متابعي الداعية، فظلوا على إيمانهم بما حدثهم به، لا يساورهم شك في قيمة الجهاد الذي دعاهم إليه، ولا يرتابون في تحقق الخلافة التي بشّرهم بها، كان ذلك الداعية حامل رسالة بالنسبة لهم، وما يعنيهم منه هو تلك الرسالة التي حملها إليهم، وليس من شأنهم بعد ذلك أن يذهب حيث يشاء أو يفعل ما يشاء، ولو كان خصومه يدركون ما تأسس في الخطاب الديني، وعلى نحو خاص في خطاب الإسلام السياسي، من فصل بين الخطاب وناقل الخطاب لانصبّ نقدهم على كشف زيف الخطاب نفسه، وعلى الآليات التي استخدمها لفرض سلطته وهيمنته، واكتساب مناعته من داخله على نحو لا يصبح مرتهنا لسلوك حامله وتصرفاته.

كانت خطبة العريفي في جامع عمرو بن العاص أنموذجا لاستخدام مختلف آليات الخطاب الكفيلة بتأثيره في المتلقين له، بدءا من الموضوع الذي دارت حوله الخطبة، وانتهاء باختيار المكان والزمان ونوعية جمهور المتلقين، وإذا ما أردنا أن نتبين ذلك توجب علينا وضع تلك الخطبة في سياق نشاط العريفي الدعوي في تلك الزيارة التاريخية لمصر، والتي لم تكن خطبته في جامع عمرو بن العاص غير واحدة من جملة الأنشطة التي قام بها خلال تلك الزيارة ومن أهمها:

1 - محاضرة بقاعة المحاضرات الكبرى في الأزهر تحدث فيها عن دور الأزهر في تخريج الدعاة الذين عملوا في مجال الدعوة في المملكة.

2 - محاضرة في مسجد الجمعية الخيرية في المنصورة وصف فيها الشعب المصري بأكثر الشعوب صمودا.

3 - محاضرة بمسجد الحصري في مدينة 6 أكتوبر افتتحها بالحديث عن فضل علماء مصر الذين تعلم على أيديهم في مختلف مراحل التعليم.

4 - خطبة الجمعة في جامع عمرو بن العاص وهي الخطبة الشهيرة التي كاد الذين استمعوا لتلك الخطبة أن يحملوا سيارته حين غادر الجامع تعبيرا عن تقديرهم له.

وكان العريفي قد مهد لزيارته مصر في يناير 2013 بخطبته في جامع البواردي التي تحدث فيها عن فضائل مصر وأهل مصر، وقد أسهمت تلك الخطبة في إحاطة زيارته لمصر بحفاوة على المستويين الرسمي والشعبي، وهيأت لتقبل العريفي محاضرا ومحاورا وخطيبا وشاعرا كذلك.

ولم تكن تلك الخطبة في جامع البواردي وحدها ما هيأ ذلك التقبل للخطاب الذي حمله إلى مصر، وإنما كانت مصر آنذاك تشكل أرضية خصبة لتلقي ذلك الخطاب، وتحت تأثير الثورة التي أججت الشارع المصري وأحيت فيه مفهوم النضال، كما أسهمت في تحقيق جماعة الإخوان المسلمين حلمها التاريخي في الوصول إلى الحكم في مصر، وأيقظت في خلاياها النائمة في كثير من الدول العربية الحلم نفسه، كانت مصر منتظرة لما يشبه «النمذجة» لما انتهت إليه ثورتها، ولم يكن أحد أكثر ملاءمة لهذه النمذجة من داعية قادم من أرض الحرمين يتنزّل حديثه عنها منزلة شهادة الرجل المحايد لما حققته ثورتها من إنجاز لا يختصر في خلاصها من حقبة اعتبرتها الثورة حقبة فاسدة، وإنما باعتبار وصول الإخوان المسلمين، وهي نموذج لحراك الإسلام السياسي، خطوة نحو تعزيز مكانة الأمة الإسلامية واستعادة حلم الخلافة المفقود، وذلك ما كانت تذهب إليه أدبيات الحزب وما تأسست عليه من مقولات الحاكمية التي دارت عليها مؤلفات أبو الأعلى المودودي وسيد قطب.

لم تكن الطريق ممهدة على كل المستويات ومن قبل كافة الفئات للعريفي لو لم يقدم بين يدي زيارته لمصر بخطبته في جامع البواردي، وهي الخطبة التي أعادت بثها قنوات التلفزة في مصر، ونشر كثير من الصحف المصرية مقاطع منها، وباتت حديث المجالس في حقبة من تاريخ مصر كانت تتلمس فيها ما يمكن أن يعيد لها الثقة بنفسها، بعد أن أسقطت الثورة تلك الأمجاد المؤسسة على مدى ستين عاما أعقبت ثورة يوليو، وكان وصول الإخوان المسلمين للسلطة محل ريبة دفعت كثيرا من الدول العربية إلى التشكك في مستقبل علاقاتها بمصر وبالنظام الجديد الحاكم فيها.

لم تكن مصر تستقبل، في حقيقة الأمر، العريفي، وإنما كانت تستقبل نفسها ممثلة في كلمات العريفي عنها وإشادته بها تاريخا وحضارة، شعبا وعلماء، ولم تكن تحتفي به في ذاته بقدر ما كانت تحتفي باحتفائه بها، وبلغ الأمر غايته حين أكد في أنشطته من ندوات ومحاضرات وخطب ومقابلات صحفية وتلفزيونية على ما ذكره من فضائل مصر التي وقف عندها في خطبة جامع البواردي في الرياض، ثم مضى لما هو أبعد من ذلك حين دعا رجال الأعمال إلى الاستثمار في مصر باعتبارها بلدا آمنا مستقرا ينتظره مستقبل اقتصادي زاهر، وكانت تلك الدعوة غاية ما كان ينتظره المصريون منه في بلد لا يعاني شيئا كما يعاني سوء الوضع الاقتصادي.

كان العريفي، وهو يقتنص تلك اللحظة التاريخية، يحمل لمصر ما كان يرى أنها تتطلع إليه، وكان المصريون يجدون لديه ما يودون سماعه منه، وقد أسس بذلك كله لحالة من التلقي كانت ذروتها تلقي الذين استمعوا لخطبته في جامع عمرو بن العاص، والتي كانت خاتمة أنشطته خلال تلك الزيارة.

لم يكن العريفي يؤسس لحالة التلقي تلك فحسب، بل كان يؤسس في الوقت نفسه لمصداقية لم يكن لها أن تتزعزع بما أثاره خصومه من تناقض بين دعوته للجهاد ومغادرته إلى لندن، ذلك أن من شأن أي زعزعة لتلك الثقة أن تمس كل ما ذكره عن مصر وفضائلها، فليس لمن يسلم له بما قال أن يصدّق بعضَ ما قال، وينكر بعضه الآخر، فحديثه خلال أنشطته حديث يتّصل بعضه ببعض، ومن شأن إنكار شيء منه أن يضع بقيته موضع الريبة والشك.

كانت تلك هي الأسس التي استند إليها خطاب العريفي في أنشطته بمصر وحققت لذلك الخطاب قدرته على التأثير، وهو الأمر الذي يؤكد على أن الخطاب لا يمكن أن يكون فاعلا ومؤثرا بمعزل عن الحاضنة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تمنحه شرعيته وتكرس سلطته، غير أن لخطبته في جامع عمرو بن العاص أسسا أخرى وآليات مختلفة، انضمت إلى كل ما سبق وجعلت لهذه الخطبة أثرا لم يتحقق لبقية تلك الأنشطة، وهو ما سوف يتم تناوله في مقال الأسبوع المقبل، بإذن الله.