كان الإسلام قد تلقى التراث الإغريقي ونقله إلى الغرب بدءا من القرن الثاني عشر الميلادي. فهل هذا الانفتاح على فلسفة الإغريق وعلومهم عائد إلى الفضول المعرفي الذي كان يتمتع به المسلم سابقا، أم إلى وصية صريحة بذلك من قبل القرآن والنبي؟

إنها لحقيقة تاريخية أن الفلسفة والعلم الإغريقيين قد شهدا انتشارا متزايدا بدءا من القرن الثامن أو التاسع الميلادي. ولكن لا القرآن ولا النبي لم يحثا على دراسة هذه المواد. على العكس نلاحظ أن الأوساط الدينية قد أبدت منذ القرن التاسع معارضة شديدة ضد انتشار العلوم العقلية المضادة للعلوم الدينية أو التقليدية. (علوم عقلية/‏ علوم دينية أو نقلية). وقد ثار ابن قتيبة (الذي مات عام 889 م) في كتابه الشهير أدب الكاتب ضد كل أولئك المهووسين بأرسطو).

إن النجاح الذي لقيه الفكر الإغريقي في منطقة إيران - العراق، أولا، ثم في الأندلس في ما بعد يعود إلى تجذره القديم جدا في منطقة الشرق الأوسط منذ فتوحات الإسكندر، ثم بفضل الكنيسة بعد القرن الثالث للميلاد. وكانت اللغة السريانية هي لغة الحضارة قبل العربية، وخدمت كوسيلة للترجمة من الإغريقية. ثم راح المترجمون، ذوو الأصل المسيحي في معظمهم، يترجمون المؤلفات الإغريقية من السريانية إلى العربية. وفترة الترجمة الكبرى كانت في زمن الخليفة المأمون الذي حكم بين عامي (813 - 833 م) والذي أسس في بغداد دار الحكمة الشهيرة. وهكذا يمكن للدارس أن يتتبع مسار الفكر الطويل بدءا من أثينا وحتى بغداد والري وقرطبة مرورا من حيث التتابع الزمني بالإسكندرية وإنطاكية والرها ثم جنديسابور في إيران.

لا نملك الوقت الكافي هنا لكي نسرد قصة ذلك النقل، المعقـدة والمتعرجة وإنما نكتفي بإحالة القارىء إلى الكتب المتخصصة في الموضوع (انظر مثلا كتاب عبد الرحمن بدوي بالفرنسية: نقل الفلسفة الإغريقية إلى العالم العربي، منشورات جوزيف فران، باريس 1968). سوف نركز انتباهنا بالأحرى على العبرة والدرس المستخلص من تلك المغامرة الفكرية الكبرى التي أصابت مجمل الفضاء المتوسطي، ثم منطقة الغرب في العصور الوسطى، لكي تشمل بعدئذ العالم كله مع ظهور الاكتشافات الكبرى للفكر الحديث. في الواقع، إن الفكر الإغريقي يمثل ضمن التاريخ العام للفكر أحد سفحي التأمل والمعرفة في كل المجال الإغريقي - السامي. أما السفح الآخر، المنافس والمكمل له ثم المعارض في آن معا، فقد كان فكر الوحي والنبوة. وقد ابتدأت المجابهة بين موقفي الروح هذين أمام العالم والمعرفة بشكل مبكر جدا مع أقطاب مثل فلافيوس جوزيف، وفيلون الإسكندراني، وبولس، والإنجيليين (أو المبشرين بالإنجيل)... وقد أحس يهود «الدياسبورة» أو المنفى بالحاجة لامتلاك ترجمة إغريقية لكتبهم المقدسة. وراحت المسيحية البدائية تزيد من سرعة المرور من الثقافة السامية إلى الثقافة ذات التعبير اليوناني (من المعروف أن الثقافة السامية كانت تعبر عن نفسها باللغة العبرية والآرامية. والمسيح نفسه كان يبشر ويدعو باللغة الآرامية).

وهذا الانتقال أو المرور كان يمثل طفرة عقلية أدت إلى نتائج وانعكاسات كبرى على التطورات اللاحقة للتيولوجيا المسيحية في نسختيها الكاثوليكية الرومانية والأرثوذكسية البيزنطية. وفي هذه النقطة بالذات ينبغي أن نبحث عن سر القطيعة أو القطيعات بين المسيحية المصبوغة بالصبغة الهيلينية واللاتينية من جهة/‏ وبين الإسلام الذي بقي مغروسا ومتجذرا في التربة السامية بواسطة اللغة العربية، لغة الوحي. وهناك مناظرة شهيرة جرت بين عالم المنطق متى بن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي في القرن الرابع الهجري/‏ العاشر الميلادي. وهذه المناظرة تقدم لنا فكرة عن الرهانات الفلسفية والمعنوية السيمانتية المرتبطة بتلك المجابهة بين الساحة العقلية للفكر الإغريقي/‏ وبين الرؤيا الروحية للفكر التوحيدي.

وهناك شبكة موضوعاتية دائمة ومستمرة نجدها لدى آباء الكنيسة، والأفلاطونيين الجدد، وشارحي أرسطو، والمتصوفة المسلمين، والفلاسفة العرب واليهود في الفترة الكلاسيكية الممتدة حتى ابن رشد (مات عام 1198م)، والغزالي الذي مات عام (1111م) يبرهن بكل جلاء ووضوح، عن طريق أعماله ذات الصبغة الفلسفية واللاهوتية والقانونية الفقهية والصوفية، على التداخل الحميمي بين الجهاز المفهومي الفلسفي والإشكالية اللاهوتية والفقهية الإسلامية والحساسية الصوفية، وقد انتشر قبله نص شهير تحت اسم ألوهيات أرسطو (أو أثولوجيا أرسطوطاليس)، ولكنه في الواقع مزور لا علاقة له بأرسطو، وإنما هو عبارة عن مقاطع مقتطفة من تاسوعات أفلوطين.

وبواسطة مفردات المعجم الأفلاطوني الجديد استطاعوا أن يقيموا جسرا بين الفلسفة الأرسطوطاليسية والفلسفة الأفلاطونية والفكر الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي.

وقد استطاع المسلمون أن يهضموا تعاليم أرسطو وأفلاطون في مجال الأخلاق والمنطق دون مقاومة كبرى. ولكن فيما يخص الميتافيزيقا فقد كانت المقاومة أشد عنفا، فهناك ثلاث مسائل استمرت في إحداث الانقسام والفرقة بين الفلاسفة/‏ والمتكلمين، وهي: أبدية العالم، خلود الروح، السببية. وقد اشتهر الغزالي وابن رشد بمناظرة غنية وخصبة حول هذه الموضوعات الثلاثة.