حرصت خلال اليوميين الماضيين على متابعة منتدى الرياض الإنساني الدولي في دورته الثانية، الذي أقيم بتنظيم من مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين، والذي يأتي كدلالةٍ على اهتمام المملكة بمواصلة وترقية العمل الخيري على مستوى العالم، والبحث في كيفية وضع السبل التي تؤدي إلى زيادة الاستفادة من الجهود التي تقوم بها جهات عدة، للوصول إلى أعلى درجات التنسيق الذي يضمن وصول الدعم إلى مستحقيه، والقضاء على كافة العقبات التي تحول دون ذلك لاسيما في مناطق الكوارث والأزمات. كذلك بحث المنتدى كيفية ربط العمل الإنساني بمفاهيم التنمية المستدامة، وذلك عبر مساعدة الشرائح المستفيدة من الدعم على إيجاد مصادر دخل خاصة بها، وهذا نوع من الفهم المتقدم الذي يؤدي إلى زيادة قدرة الإنسان للاعتماد على نفسه.​

اشتملت أوراق العمل على العديد من المقترحات التي عُنيت ببحث كيفية التغلب على الصعاب والمعوقات التي يضعها البعض في طريق القائمين على العمل الإنساني لأسباب سياسية أو عرقية، وهو ما يتطلب التوصل إلى اتفاق على إبعاد الدعم الإنساني عن كافة مظاهر التسييس وأجندات الصراع، والتصدي لكل من يحاول فعل ذلك، والابتعاد بالعمل الإغاثي عن كل الاعتبارات غير الإنسانية.​

كما استمد هذا الحدث الذي تستضيفه الرياض للمرة الثانية أهميته من كونه يضم صناع القرار في المجتمع الإنساني الدولي والإقليمي والمحلي، والقائمين على منظمات الأمم المتحدة، واستضاف 1280 مشاركاً ينتمون إلى 80 دولة، ويمثلون 67 من المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية، والوكالات والمنظمات الدولية المحلية، إضافة إلى أكاديميين وباحثين متخصصين في المجال الإنساني، يعملون في 11 جامعة حول العالم. ولا شك أن هؤلاء قدموا خلال فعاليات المؤتمر عصارة تجاربهم الممتدة على مدار سنوات طويلة، لذلك فإن الآمال معقودة على المؤتمر لتخليص العمل الإنساني من بعض الشوائب التي لحقت به جراء ربطه بأهداف سياسية هي أبعد ما تكون عن طبيعة عمله.​

ولا يخفى على المتابع أن هناك حاجة ماسة للبحث عن حلول علمية وعملية مبتكرة، وتجاوز الأساليب القديمة في تقديم الدعم، وذلك عطفاً على التغيرات الناتجة عن تغير المفاهيم واختلاف نمط المعيشة والحياة، فما كان بالأمس يحتل موضع الصدارة في احتياجات الشرائح المستهدفة قد لا يكون كذلك اليوم، فالاحتياجات تتغير والأولويات تتبدل، لذلك لا بد من عقد مثل هذه المنتديات لتبادل الخبرات والتجارب.​

فالعمل الإغاثي لم يعد كما كان في السابق، ورغم التسليم بحسن نية العديد من الجهات المانحة، ورغبتها في مد يد العون للشرائح المحتاجة، إلا أن هناك فوضى قللت من تأثير ذلك العمل، ومنعت تحقيق الاستفادة الكاملة بسبب غياب التنسيق المطلوب.

​لذلك برزت الحاجة الماسة لزيادة التواصل، وتبادل الأدوار، وتأهيل القائمين على العمل الخيري، ورفع كفاءتهم وإلحاقهم بدورات تدريبية؛ لأن العمل في هذا المجال لم يعد في كثير من الأحيان مجرد تطوع في أوقات الفراغ، بل أصبح مهنة ووظيفة وعلما يدرس في الجامعات، له أصول ونظريات وأساليب عملية حول مواجهة التحديات والصعوبات وكيفية التواصل والوصول للشرائح المستهدفة في مناطق الكوارث والأزمات والأوبئة.​

هناك أيضا جانب في غاية الأهمية، أتمنى من المهتمين بالعمل الإنساني التركيز عليه، وهو تفعيل المساهمات في المجال الصحي، فالكثير من القادرين والمؤهلين للعمل توقفوا بسبب إصابتهم بأمراض لا يملكون القدرة المادية على علاجها، ولا تتوفر في مناطقهم مقومات الرعاية الصحية، وهؤلاء لا يحتاجون إلى دعم متواصل؛ لأن باستطاعتهم كسب قوتهم بأنفسهم إذا امتلكوا ناصية العافية وتمتعوا بالصحة.​

لكل ذلك، فإن الرياض - التي تصنفها الأمم المتحدة في طليعة الدول الأكثر تبرعاً في العالم - والتي تجاوز إجمالي ما أنفقته على برامج المساعدات الإنسانية خلال الأربعة عقود الماضية 115 مليار دولار، استفادت منها أكثر من 90 دولة في العالم، ولا زالت تواصل القيام بدورها الريادي الذي أهلها لتكون عاصمة العمل الإنساني العالمي، وهي عندما تفعل ذلك فإنها تنطلق من مكانتها الرائدة التي تبوأتها خلال السنوات الماضية، من خلال إسهاماتها العديدة والمقدرة التي تقدمها دون مقابل، ودون اعتبار لأي حسابات سواء كانت سياسية أو دينية أو مذهبية، ولم تنقطع إسهاماتها الإنسانية عن جميع المحتاجين، بمن فيهم من يناصبونها العداء ويحاولون الكيد لها في السر والعلن، حتى مسقط رأس زعيم ميليشيات الحوثيين المتمردة في صعدة وصلته العشرات من قوافل المساعدات السعودية التي تحمل في طياتها مقومات الحياة والازدهار، رغم المحاولات الفاشلة لمن امتلأت قلوبهم حقدا وسوادا قصف القرى والمدن السعودية بأدوات الموت والدمار.​

بقي القول إن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية الذي ولد عملاقا يثبت في كل يوم اتصاله بمقومات الحياة الإنسانية في العالم، ويواصل سعيه الجاد نحو التفرد، ويقوم على إيصال مملكة الخير للعالم أجمع، دافعه في ذلك خير الإنسانية ورفاهية الإنسان، حتى بات ينظر إليه على أنه أبرز المراكز الإنسانية في مجال الإغاثة والأعمال الإنسانية على مستوى العالم، رغم أن عمره لم يتعد بضع سنوات، لكن مساهماته - حسب ما اطلعت عليه من إحصاءات رسمية - وصلت إلى قرابة 130 دولة حول العالم، إضافة إلى نهجه الفريد القائم على المزاوجة ما بين الفعل الإنساني الذي يعود إلى الفطرة السوية، وقيم الانتماء الديني المستمد من البعد الإسلامي الأصيل، وهو بذلك الدمج يقدم خدمة عظيمة للإسلام، ويقدمه في صورة عصرية وبصورة عملية تغني عن آلاف المقالات والكلمات، تثبت أن المملكة ليست مجرد دولة تنشد التطور، بل تصنعه للآخرين وتساعدهم على تحقيقه.