عندما ننظر عن كثب للواقع العلمي في عالمنا العربي نجد بحق نهضة علمية حقيقية على المستويات كافة، فهناك مئات من المؤتمرات قد عُقدت وآلاف الأبحاث قد أنجزت، وملايين من الخريجين الذين يشكلون كوادر متخصصة في جميع المجالات قد تم إعدادهم وتهيئتهم لمواكبة سوق العمل، وأن عددًا كبيرًا من الكليات قد حصل على الجودة والاعتماد وفق معايير دولية، وهذه النظرة يجب أن تكون هي منطلقنا لمحاولات التحسين والانطلاق المستمرة التي بدأت تؤتي أكلها ونقترب من جني ثمارها، هذه النظرة يجب أن تظل بعيدًا عن نظرات التشاؤم التي تسيطر على الكثيرين من حيث الجودة والاعتماد والتدني في التصنيفات العالمية، وبعيدًا عن جلد الذات الذي يمارسه البعض باستمرار من حيث تحقير الجهد العلمي العربي، والمقارنة الظالمة باستمرار لمنتج التعليم العربي والمنتج الغربي، هذا مع اعترافنا الكامل بوجود عددٍ من المشكلات التي تواجه التعليم في عالمنا العربي التي تختلف في طبيعتها حسب طبيعة كل بلد عربي، لكن وجود هذه المشكلات لا يعني التردي الكامل في الحقل التعليمي أو عدم مقارنته بالمنتج الغربي، وسأقدم دليلا دامغًا يدحض أقوال المتشككين باستمرار ألا وهو نجاح الكوادر العربية المهاجرة التي لمع بريقها، وجلوسها على قمم المؤسسات الأجنبية في مجالات مختلفة، ودليل آخر النجاح الكبير الذي يحققه المبتعثون في أكبر وأشهر الجامعات العالمية في جميع دول العالم الذين يعودون إلى بلادهم بعد الحصول على أكبر الشهادات العلمية التي تمنحها هذه الجامعات، بل ويتفوقون على أقرانهم في هذه الجامعات، وهؤلاء قد تم تأسيسهم علميا في جامعتنا العربية.

ومن أهم الإشكاليات التي تواجه التعليم في عالمنا العربي التي هي بحاجة إلى مناقشة والتي أعتقد أنها السبب وراء النظرية السلبية للمنتج التعليمي العربي، وهي وجود إشكالية مستمرة بين النظرية والتطبيق، وبين الجديد والقديم، فلدينا جهد علمي كبير لكن لا يتم تطبيقه والنظر إليه بعين الاعتبار سواء كانت بحوثا أو توصيات أو الاستفادة المثلى بالمنتج التعليمي.

وكثير من البعض يقدح باستمرار في المنتج التعليمي، ويوجه أصابع الاتهام للطريقة التعليمية والتدريبات العملية التي تخرج على أساسها الخريج، لكن بنظرة عادلة سنجد أن الأمر صار معكوسًا، فالخريج كثيرا ما يتخرج على نحو علمي متطور بينما يكون عمل الكثير من المؤسسات لا يتواكب مع التطور الذي حصل عليه الخريج، وبدلا من إعطاء الفرصة لهذه الأجيال الجديدة للعمل والابتكار والتطوير وفق الجديد الذي تعلموه، وتشجيعهم على تقديم أفكار ابتكارية يتهمون بعدم قدرتهم على مواكبة سوق العمل والأداء التطبيقي، حيث هذا يذكرني بقصة الطبيب وحلاق الصحة الذي كان يمارس الطب في القرية الريفية المصرية في الماضي عندما كان يأتي الطبيب المتخرج الذي يحاول أن يعالج المرضى وفق أساليب علمية حديثة تلقاها وتعلمها، يجد حلاق الصحة يعلنها عليه حربًا شعواء للتقليل من شأنه، وصرف الناس عنه، وحتي يستمر التكسب من خلال العلاج بالدجل والخرافات مثل دهن العيون الرمداء بزيت قنديل أم هاشم «السيدة زينب» مما دفع كبار الكتاب في مصر مثل الأستاذ يحيي حقي إلى تناول هذا الموضوع في روايته الشهيرة قنديل أم هاشم.

ومن هنا نؤكد وجوب إتاحة المجال للخريج الجديد ليطور ويبتكر ويقدم التطبيق العملي وفق النظريات العلمية التي تعلمها لكن في ظل الوضع المتردي في كثير من المؤسسات التي تدار بطريقة عشوائية قديمة، ويطالب فيها الخريج مع أول درس عملي في المؤسسة التي التحق بها «انس كل ما تعلمته بالجامعة» ولا أريد أن أُقدّم أمثلة في مجالات محددة تؤكد عدم استجابة كثير من المؤسسات للتطورات والأفكار الجديدة التي يحملها الخريجون الجدد للتطوير والتحديث بل والاستهانة الكاملة بهم وبما تعلموه، والإصرار على وجوب خضوع هذا الخريج للطرق العشوائية والقديمة البالية التي كانت تمارس من عقود طويلة.