رغما عن الجوانب الإيجابية الكثيرة في طريقة تعامل المملكة مع مرض كورونا، وفي مقدمتها نهج الشفافية والوضوح الذي يتسق مع موجهات منظمة الصحة العالمية وكافة المنظمات الدولية ذات الصلة، والتنسيق العالي مع دول العالم المتقدمة للتصدي لهذا الوباء الفتاك، والإجراءات الصارمة التي تم إقرارها، والتعامل المرحلي مع الأمر بما تقتضيه الضرورة، وفقا للتطورات، إلا أن أكثر ما يلفت النظر في ذلك كله الفهم المتقدم الصحيح لمقاصد الشريعة، والمرونة العالية التي تعاملت بها هيئة كبار العلماء مع هذا الوضع الطارئ، وسعيها الحثيث إلى تطبيق ما يطلق عليه العلماء «فقه المستجدات»، واستخدام باب سد الذرائع بصورة مثالية، تأسيسا على قاعدة «دفع الضرر».​

أبرز ما يأتي في ذلك الإطار الفتوى التي أصدرتها الهيئة بوقف صلاة الجمعة والجماعة في كافة المساجد، باستثناء الحرمين الشريفين، والاكتفاء برفع الأذان، وإبقاء أبواب المساجد مغلقة، صيانة لدماء المسلمين، وحفاظا على أرواحهم، وضمان سلامتهم، وذلك بسبب جائحة كورونا وسرعة انتشارها وكثرة الوفيات بها، وخطورتها المتمثلة في سرعة انتقال عدواها بين الناس بما يهدد أرواحهم، ما لم تكن هناك تدابير احترازية شاملة دون استثناء فإن الخطورة ستكون متضاعفة. وإن التجمعات تعتبر السبب الرئيس في انتقال العدوى، مع تنبيه العامة إلى ضرورة التقيد التام بما تصدره الجهات المختصة من الإجراءات الوقائية والاحترازية والتعاون معها.​

وكانت وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد قد استبقت تلك الإجراءات بتعليق الدروس العلمية، والبرامج الدعوية والمحاضرات، والدور النسائية، والدراسة في حلقات تحفيظ القرآن في جميع جوامع ومساجد المملكة، ورغم ما سببه توقف تلك الدروس والأنشطة الدعوية من ألم ومعاناة لمن تعلقت قلوبهم بها، واعتادوا النهل من معينها الصافي، إلا أن القرار قوبل بتأييد شامل وموافقة كاملة من كافة أطياف المجتمع السعودي، لأنه يهدف في المقام الأول إلى الحرص على سلامة طلاب العلم وطالباته، ومرتادي بيوت الله، وتعزيزا للإجراءات الوقائية والاحترازية الموصى بها من قبل الجهات الصحية المختصة في إطار الجهود الحثيثة للسيطرة على الفيروس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.​

لم تكتف المؤسسات الدينية بإصدار القرارات والفتاوى، بل أتبعتهما بنشاط علمي مكثف، وتخصيص خطب الجمعة للتوعية بخطورة المرض وكيفية اجتنابه، كما أوضح الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الدكتور عبدالرحمن السديس، لقاصدي المسجد الحرام المقاصد الشرعية للإجراءات الاحترازية المقدمة في الحرمين الشريفين، والتي تهدف إلى منع انتشار فيروس كورونا، موضحا أن ما تقوم به المملكة من احتياطات وتدابير وقائية من أجل منع انتشار هذه الأمراض يؤكد حرصها التام على سلامتهم، أخذا بالأسباب والاحتياطات التي تساعد على منع تفشي الوباء.​

في المقابل، تعاملت السلطات المختصة مع زيارة عدد من مواطني محافظة القطيف سرّا إلى إيران وعدم وضع أختام الدخول والخروج على جوازات سفرهم بطريقة غاية في الحكمة، حيث أعلنت عفوا عن كل من ارتكب ذلك الفعل المحظور، شريطة الإبلاغ الفوري عن ذلك، لا سيما بعد ثبوت إصابة عدد من مواطني المحافظة بالمرض، وتجاوب علماء المحافظة مع تلك الخطوة، حيث أفتوا بوجوب الإفصاح عن زيارة أي مواطن لإيران، لتتمكن الجهات الصحية من التعامل مع حالات الإصابة بالفيروس، والحد من خطر انتشاره، موضحين أن ذلك يعد «واجبا وطنيا ودينيا وقانونيا»، وناشدوا المواطنين التحلي بالوعي الكافي والمسؤولية لتجاوز هذه المرحلة، مؤكدين أن التخلي عن هذه المسؤولية محرم شرعا. وقد استجاب لتلك الدعوات مئات المعنيين الذين انصاعوا لنداء الحق، وخضعوا طواعية بأنفسهم للإجراءات الصحية والطبية التي هدفت في المقام الأول إلى ضمان سلامتهم وسلامة عائلاتهم وأقاربهم. إلا أن المصلحة العليا للوطن تقتضي التشديد مستقبلا في هذا الأمر، لا سيما في ظل قطع المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، احتجاجا على سياساتها التخريبية في المنطقة. لذلك فإن زيارة أي شخص لتلك الدولة بطريقة سرية سوف يُنظر إليه بريبة وتشكك.​

كذلك فإن مما يثير الإعجاب والفخر في آن واحد هو أن المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية في معظم الدول الإسلامية بادرت للإشادة بالفتاوى التي أصدرها علماء المملكة، وسارعوا إلى تطبيقها في بلادهم، تأكيدا لما تلقاه المؤسسات العلمية السعودية من تأييد وسط عموم المسلمين، وما تتمتع به من مكانة سامية لديهم، لأنها تنطلق من مهبط الوحي وأرض الحرمين الشريفين.​

كما جاءت القرارات الرسمية الصادرة عن الدولة في الإطار ذاته مكملة لتلك الفتاوى، مثل تعليق العمرة وزيارة المسجد النبوي للقادمين من خارج المملكة، وقرار تعليق العمرة للجميع، وإغلاق الحرمين الشريفين بعد صلاة العشاء وإعادة فتحهما قبل صلاة الفجر بساعة، حتى يتسنى للعاملين فيهما غسل صحن المطاف وتعقيمه، وكذلك أماكن الصلاة وكافة المرافق، وهي عملية مركزة ودقيقة تتم عدة مرات في اليوم الواحد، ويشارك فيها مئات الموظفين والعمال، لضمان القضاء على جميع الفيروسات والمكروبات المنتشرة على الأرض وأسطح الأدوات المستخدمة، حرصا على سلامة قاصدي الحرمين الشريفين.​

هذا التناغم الفريد بين المؤسسات الدينية ينبغي استغلاله لتحقيق مزيد من الوحدة والتكاتف بين أبناء الوطن الواحد، ليشكل ردا بليغا على من يريدون إحداث الفتنة في بلاد التوحيد. فأبناء أرض الحرمين الشريفين، الذين جمعت بينهم القبلة الواحدة، ونشؤوا في دولة ترفع راية التوحيد وتمضي ثابتة راسخة على هدي الإسلام وتعاليمه، هم أكبر من مخططاتهم الشريرة، ولن يستطيع أحد أن يبثّ سمومه بينهم، لأنهم تشبعوا بالقيم التي أرساها المؤسس المغفور له -بإذن الله- الملك عبدالعزيز آل سعود، وسار عليها أبناؤه الميامين من بعده.