ما زلنا نعيش في عمق الأزمة الكورونية العالمية التي ضربت حبل العالم الشوكي، فأصابت اقتصاده وحياته الاجتماعية بشلل كامل.. ما اضطر الحكومات الواعية إلى تخدير أعضاء بلدانها الحيوية بشكل مؤقت حتى تستطيع جهاتها الصحية والأمنية معالجة الوضع، قبل أن يكون الحل صعباً وشبه ميؤوس منه، مما يضطر البعض للتضحية بفئة غالية على الأفئدة في سبيل إنقاذ البقية من المواطنين كما رأينا في بعض الدول..

كورونا اجتاح العالم كشبح مرعب داهم شعوب الأرض على غفلة منها، فأربكها بغموضه وسرعة انتقاله وشراسته على بعض الفئات العمرية، أو التي تعاني من مشاكل صحية مزمنة فهل هي نهاية العالم؟ بالطبع لا.. فالكرة الأرضية على مر التاريخ تعرضت لأزمات صحية أكثر خطورة وشراسة، واستطاع البشر بمجتمعاتهم بعد قدرة الله على تجاوزها رغم بدائية خطوط دفاعها الصحية آنذاك مقارنة بوقتنا الحاضر.. إذاً فكورونا عارض صحي شرس أصاب سكان الأرض سينتهي ويزول عاجلا أم آجلا بإرادة الله وقدرته أولاً، ثم بحكمة الحكومات وإجراءاتها السريعة والحازمة في مواجهة الموقف، مع وعي الشعوب وتعاونها مع حكوماتها لتجاوز هذا الخطر.

ما يجب أن نبحث له عن إجابة هو ما بعد كورونا واجتياحها العالمي، هل سيبقى تصنيف الدول كما هو وهل ستسقط حكومات في نظر شعوبها وترتفع أخرى؟ هل سيغتير شيء في العالم؟ وما هي الدروس التي سنخرج بها بعد هذه الكارثة الصحية العالمية التي قلبت العالم رأساً على عقب لتكون عوناً لنا في مواجهة أزمات فجائية أخرى؟

الأسئلة والأجوبة تضع دائما حدودا للشيء مما يجعلنا نحصر الهدف داخل حدود السؤال فلا تهرب منا فكرة وسط تزاحم الأفكار، وبذلك تتركز الفائدة.

فهل سيتغير شيء في العالم؟

نعم.. العالم كله سيتغر بعد هذه الأزمة التي لم يعش مثلها جيلنا ولا جيل سبقنا من قبل.. هذه الأزمة ستعلمنا أن تصنيفات الدول كعالم أول وثان وثالث يجب ألا تكون في المجمل لأن كورونا كشف لنا حقائق كانت مستترة تحت غطاء الاستعراض الإعلامي وصناعة الأفلام السينمائية المربحة.. فعلى مشهد من شعوب العالم أجمع رأينا كيف سقطت حكومات في نظر العالم بعد أن فلتت السيطرة منها فآثرت مصالحها الاقتصادية على سلامة شعوبها بالتضحية بمن تجاوز سنا معينة أو من يعاني من ظروف صحية صعبة.. وفي المقابل رأينا كيف ارتفعت حكومات في نظر شعوبها علاوة على ارتفاعها الذي لا يراهن عليه من قبل، عندما ضربت بمصالحها الاقتصادية عرض الحائط، وآثرت سلامة شعوبها مراعية حقوق الإنسان، فعلا لا قولا، فهناك فرق بين شعارات سقطت على أرض الواقع عندما عاشت الاختبار الحقيقي لمعنى حقوق الإنسان، وبين من أثبت جدارته في إنسانيته تجاه مواطنيه.. اختبار الإنسانية الصعب اجتازته بلادي بكل جدارة عندما آثرت مصلحة المواطن، وراعت حقوقه في الحياة مهما كانت سنه أو ظرفه الصحي من حيث تأمين العلاج والغذاء والدواء، والسيطرة على الوضع بعدم السماح لجشع من لم تردعه أخلاقه عن العبث التجاري أو الفوضى الاجتماعية أو خرق القوانين.. ومن هذا الموقف الصعب نقف لدولتنا السعودية بكل أجهزتها وقطاعاتها احتراماً وتقديرا لأنها أثبتت أنها من دول العالم الأول في مراعاة حقوق الإنسان واحترام المواطن..

بعد كل هذا.. هل هناك ما يجب أن نخرج به كدروس لمواجهة أزمات أخرى قد تحدث..؟

نعم هناك دروس كثيرة نحن طبقناها فعلا ولكن تحتاج منا إلى تطويرها حتى تكون جاهزة عند الحاجة إليها.. منها إنشاء مركز إدارة أزمات في كل حي مرتبط بمركز إدارة الأزمات الرئيس، لتخفيف الضغط عليه في الوقت الذي نختصر من خلاله الوقت والجهد لمواجهة الأزمة.

فتح باب التدريب لإدارة الأزمات في كل المجالات وليس الصحية فقط بشهادات معتمدة لمن يرغب، ليكون المواطن مؤهلا لمد يد العون للدولة ويخفف العبء عليها عند الحاجة لمواجهة أزمات مشابهة.

تطوير نظام العمل والتعليم عن بعد واعتماده ليس في الأزمات العامة فقط، بل أيضا في الأزمات الخاصة عندما تضطر ظروف الموظف أو الطالب أو والديه للتغيب عن الحضور، وبذلك نضمن وجوده عن بعد دون تعطيل أو غياب كلي.

إعادة النظر في المناهج الدراسية أصبح أمرأ حتميا، فلا يهمني أن أعرف أين تقع الدولة الفلانية ولا ما هو مناخها ولا صادراتها ووارداتها، ولا يهمني من التاريخ إلا التعمق في تاريخ دولتي السعودية، ولكن ما يهمني كأخصائية اجتماعية وكمواطنة سعودية استحداث مناهج تبني شخصية المواطن السعودي ليكون مرنا في فكره وتعامله مع كل الأنماط الفكرية والظروف، مفكرا منتجاً ذا حس مسؤول بقدرات وخبرات متعددة، قادرا على مواجهة الظروف المختلفة.

أزمة كورونا ليست الأولى ولكنها الأشرس خلال قرن من الزمان.. هي كذلك لن تكون الأخيرة فمنذ بدء الحياة على كوكب الأرض والأزمات والكوارث الطبيعية أقوى من الإنسان، فهي تأتي بين وقت وآخر مهما كانت الاحتياطات.

المهم أن نخرج من هذه الأزمة بتقدير لحكومتنا على كل ما بذلته في مواجهة هذه الكارثة.. وبتقدير لأنفسنا كشعب أننا نقدر على فعل الكثير، وأنه لن يصعب علينا شيء ما دمنا يدا واحدة حكومة وشعبا.