رحيل الأب ألم القلب الأبدي، وجعٌ لا يموت حتى نموت. وجعٌ لا يشفيه طيب الحياة ولا متع الدنيا وبريقها.

غسّلت جسد أبي على سرير الموت، فلا أعلم أيهما يطهر الآخر، الماء والسدر أم ذلك الجسد الطاهر المطهر لغيره.

على سرير غسيل الموتى، شعرت بموتي على قيد الحياة، يلحظني من معي فيهمس، تجلّد أو اخرج، ولو خرجت لخرجت روحي.

أغسل أكتافه وقدميه اللتين حملتاني طفلا صحيحا، وطفلا كسير الرجل إلى الضماد اليومي لأيام عدة، لعدم توافر السيارة. أغسل ذلك الوجه البشوش والثغر الباسم، إزاء كل ظروف الحياة التي لم تمض سهلة على جيله.

لا أشقى ولا أنقى من لحظة غسيل جسد متوفى غال عليك. لحظة تجتمع فيها أحزان الدنيا بأسرها، غير أنها لا تخلو من لحظة نقاء، تلامس خلالها بدنه الحبيب، في خلوة ختامية مخلوطة بالفراق المرير.

يشنّف أنفي عبق ريح جسده المميز، الذي يعرفه عنه من خالطه، فبدنه دوما يضوع ريحا طيبا، دلالة على طيب قلبه وسلامة سريرته.

ذلك القلب النقي، الخالي من الضغينة والحقد، الخالي من كل صور البغضاء حتى مع من آذاه وتعدى على حقوقه. كان يستيقظ من المنام وقد نسي مواجع الأنام ومآسي الأمس، كعادة فطرية غير مكتسبة جعلته يعيش صحيحا من الأسقام، ولو لم أرث منه إلا هذه العادة لكفتني.

كان قليل الكلام قليل المنام، زاهدا في الطعام، الأمر الذي أكسبه بنية صحيحة مليئة بالطاقة والحيوية، فكان -وفي الثمانين من عمره- يقبض يد الشاب حتى يظن أنه سيكسرها. لم يعرف أمراض العصر في حياته إلا حين أضحى طريح الفراش، حينها طرحه السكري، وكأن هذا الداء اللئيم ينتظر سقوط الرجل العظيم.

ومع لزومه الفراش لم يستسلم، فقد كان يجول في أرجاء غرفته حبوا، كعاشق للحركة والحيوية والعمل الدؤوب، منذ حقول الزراعة في الصغر، إلى حقول العمل النظامي في الكبر.

ورغم تمكن السكري من جسده، كان مقاوما لهذا الداء اللعين، لدرجة أن تجاوز قياسه 600 لأكثر من مرة، إلا أنه ينجو من كل تبعاته، حتى أسلم نفسه يوم جمعة مباركة، ولفضل موت الجمعة ما تعرفون.

وحين وضعت جسده النزيه في قبره، فعن أي أوجاع الدنيا أحدثكم، فمهما يكن من المآسي والآلام لن تعدل توسيد الأب منزله الأخير في دنيا كان هو ملؤها، حبا وتضحية وعطاء، وسماحة وحكمة، وشعرا وأمثالا. لا تتخيل اللحظة وأنت تلقي بجسد من كان السبب الأول في وجودك إلى لحده. فإلى كل من تجرّع مرارة فراق أبيه، سلام على قلبك اليتيم.

سألتك إلهي أن ترحمه في مماته، بقدر ما سألتك الصحة والسلامة له في حياته.