فلنفترض أن هذه (سنة كورونا)، كما كنا نسمع من أجدادنا عن سنين مرت عليهم، سنة الجدري، سنة سيل السبت... إلخ من سنين تسمى بكوارث الأوبئة أو البيئة، مع الفارق الحضاري بيننا وبينهم، لكن الإنسان هو الإنسان، ولأترك التجريد العقلي جانباً، ولأجرب أن أنداح كروائي ماهر يشبه عبده خال أو محمد علوان، لكنهما لا يمثلان الهواء الذي أستنشقه في أرض الكلمات، فأنا مولع بصحراء إبراهيم الكوني أكثر من ولعي برياض الورد والشوك عند أحلام مستغانمي ورفاقها، فروحي تعيش صراع الإيديولوجي والميثولوجي، أكثر من صراع الرومانسي والفانتازي.

سنة كورونا كانت سنة استثنائية في عمري الذي شارف على الخمسين، أدركت في طفولتي صورة جهيمان في التلفاز بعد تطهير الحرم مع صوت الإعلامي القدير حسين نجار، فإذا رأيت جهيمان على الشاشة ركضت هارباً لحضن أمي خوفاً من شكله، وأدركت يافعاً احتلال الكويت، والتحاق ابني عمي (شيبان وإبراهيم) بالجيش وهما خريجا المرحلة المتوسطة، فنقوم بإيصالهما لمراكز التدريب ما بين (سلاح المشاة وسلاح المدفعية) وهما فرحان بانتسابهما للقوات المسلحة، كانا بنفس عمري، بقيت بعدهما أبكي عليهما، كان خيالي واسعاً لإدراك ما يتجهان إليه رغم أنهما في سني وأنا ما زلت في الثانوية، لكن شجاعتهما أوسع من خيالي الخائف، ووعيي أقل من إدراك سبب تعطيل الدراسة، فعندما سقط صاروخ سكود على أحد المباني بالعاصمة الرياض، ورأى الناس ذلك على شاشات التلفاز، أدركوا القرار الحكيم في تعطيل الدراسة إلى التوجيه الأخير، وانتهت الحرب بالنصر المبين وعاد ابنا عمي الصغيران بأوسمة أكبر من عمريهما بكثير.

بدأ يظهر في أبها متزمتون أرادوا أن يحيلوا مسجد أبوبكر الصديق إلى مسجد (ضرار) فاقتلع الأمير السم رغم اللدغات التي ملأوا بها جسد أبها، لكنه احتمل كل هذا وحمى المدينة من جهيمانيين جدد، وتحولت أبها إلى قبلة سياحية قبل أن يدرك الناس معنى السياحة وثمرتها الاقتصادية، فمنذ زيارة الأمير الإنجليزي لرفيقه الأمير العربي أيام عز فندق البحيرة بأبها، وحتى وجود المدينة السياحية عاش خالد الفيصل مشواراً يشبه الطريق الذي أصبح باسمه، فكل يوم أحمل فيه أولادي للمدارس في طريقي للعمل، أقف عند إشارة السودة المتقاطعة مع حزام أبها الدائري، فأرى لوحة تشير إلى طريق الصعود باتجاه (جبل السودة) أعلى قمة في السعودية، ومكتوب عليها (طريق الأمير خالد الفيصل) فأبتسم بشوق وحب، وأحكي لأولادي كم في هذا الاسم من دلالة رمزية تتجاوز مجرد التسمية العادية.

تمضي السنون حتى أبلغ نهاية العشرينات من العمر، وأسافر مع ثلاثة شعراء (اثنان منهم أصبحا من سادة المشهد الروائي والشعري، وثالثهم تقاذفه المزاج الحاد لتجاوز الذات خارج حدود المنطق) فنلتقي عبدالعزيز المقالح في صنعاء، فيطرب لهؤلاء الشعراء، ثم يهديهم نسخاً من دواوينه، ولأني كنت عاطلاً من الشعر، فقد قال: أحضرت لك شيئاً يناسبك، أهداني كتاب (اغتيال العقل) مدوناً به كلمات ليست عابرة لأنها من عبدالعزيز المقالح الذي له مراسلات خاصة مع صديقه عبدالعزيز التويجري.

عرفت قينان الغامدي كأشجع لاعب روليت روسي في الصحافة السعودية، وما زال حياً دون أن تصيبه طلقة مميتة من مسدسه لا مسدس غيره، وجلست مع الدكتور عثمان الصيني كتلميذ لا يريد أن يبارح صفوف التلمذة حياءً من أستاذه الذي يريد رفعه لمقام الصداقة، ولكن هيهات فليس لمثلي أن يردم فجوة المقامات بين تلميذ وحكيم، مهما ردمها الحكيم عثمان بتبر المحبة والمودة الخاصة.

تعلم كاتب المقال من أهله الفلاحين أن خبزة البر الأسمر اللذيذة في يده، عبارة عن تراكم عملي طويل من الحرث إلى الحصاد إلى تنور أمه، فأدرك أن التطور الذي يرجوه لدولته لا يكون بالقفز على المراحل ولا بالحبو تجاه المستقبل، فكتب ووقع ما يوضح (وجهة النظر في مستقبل أفضل)، وامتنع عن توقيع بيانات تحاول فرضها، كان رهانه في كل هذا، أنه اللامنتمي وسط التيارات فلا شلة له ولا رفاق، يتفق يوماً مع هذا ويختلف يوماً مع ذاك، حافظ على أدبه مع الجميع، عاش وصية محمد زايد الألمعي في ضرورة العزلة (كن عقلاً في محراب الكتب)، فعاش علاقته الأبدية مع مكتبته، فلم يسافر لأوروبا ولا أمريكا، لا يعرف سوى لغته (الأم)، تخرج في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود بمعدل (مقبول)، ولم يواصل دراسته في أكسفورد أو هارفارد، بل واصلها في مكتبته قارئاً بقدر ما تسعفه راحلته العقلية من (السياسة الشرعية) لابن تيمية إلى (روح الشرائع) لمونتسكيو، ومن كتيب (مداواة النفوس) لابن حزم إلى كتاب (رسالة في الطبيعة البشرية) لهيوم، ومن الأحكام السلطانية للماوردي إلى (اللفياثان/‏‏الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة) لتوماس هوبز، فأدرك أن المشوار الحضاري صعب وشاق بين جسد اجتماعي اعتاد ـ عبر مئات السنين ـ على بصق المشعوذين عليه، منهكاً بالكي على كل مرض يصيبه، وما زال الجسد حتى هذا التاريخ يستمرئ البصق والكي، وجسد آخر تخلص من الخرافة ومكواة الكير واتجه للعلم الحديث في كل ملماته.

ختم قناعته وهو على مشارف الخمسين بأن (الدولة الحديثة) هي (قدس الأقداس) لكل عاقل أدرك معناها بالمفهوم العميق (للعصر الحديث) الذي أنجب مفهوم (المواطن)، فلا عز لمواطن خارج نطاق دولته، فقوة وجوده الاعتباري بين دول العالم من قوة دولته، وغير ذلك ليس إلا لعنة الشتات في صحراء التيه، يكررها مغامرون هوج بحق شعوبهم منذ بني إسرائيل حتى بني يعرب.