عصر ما بعد كورونا لا يمكن أن يكون كما هو قبله حتما.

إن أحداثا أقل منه شأنا غيّرت كثيرا من سلوكيات ومفاهيم البشرية، فما بالك بحدث جعل أكثر من 7 مليارات نسمة على سطح يابسة تقدر معمورتها بـ150 مليون كلم2، يلزمون مساكنهم مذعورين من عدو مشترك لهم.

كورونا سيكون لاعبا أساسيا فيما يسمى فلسفة التاريخ، وهو توجّه حديث يهتم بدراسة التاريخ من منظور فلسفي، بعدما كان الناس يعدّون التاريخ مجرد ذاكرة لتسجيل الأحداث الماضية، أو قصصا تروى للأمم السالفة.

فلسفة التاريخ تشتغل بالتغيرات الاجتماعية والسياسية، وغيرها من التغيرات، باعتبارها سننا كونية لها أسس تنشأ خلالها المفاهيم الجديدة، وتندثر مفاهيم قديمة، وتنشأ كذلك عوامل تغيّر وجه التاريخ عبر معطيات آنية، تفتح آفاقا لما سيحدث لاحقا.

إن من سمات الإنسان الطبيعي التفاعلَ مع قضاياه الكبرى، التي تُحدث لديه هزة في الوعي والفكر والسلوك والنظرة للحياة، والتشكل الحضاري إجمالا.

وبالنظر إلى الخصائص التي شكلتها أزمة فيروس كورونا في الفكر البشري، نجد أن أهمها يكمن في فساد مبدأ القوة في حسم المعارك.

لقد هزم كورونا أعتى القوى البشرية، وتسلط عليها مجتمعة، بل وتسلط على بعض قادتها السياسيين والعسكريين، ليس في أرض المعارك، بل في عقر دورهم ومكاتبهم، متحديا قدراتهم العسكرية والاقتصادية والطبية والتقنية.

لقد شاهدنا ترمب وهو زعيم القطب الأوحد المهيمن على قوى المعمورة، والمتحكم في الإرادة الاقتصادية والعسكرية العالمية، يناشد الصين وبقية دول العالم بتقديم المساعدات الطبية لبلاده، الأمر الذي سيجعل كورونا يغيّر مفهوم الدولة العظمى المركزية، التي تعتقد أنها ليست بحاجة إلى أحد، وهذه سمة أخرى تضاف إلى انتهاء مفهوم القوة في الغلبة.

ومن تلك المفاهيم التي سيغيرها فيروس كورونا، الإقرار بقصور العلوم الطبيعية والتي أظهرت عجز المختبرات والأبحاث الطبية العاليمة، عن إيجاد الدواء الذي يحمي البشرية من جائحة كورونا.

وعلى فرض إيجاد اللقاح الفعّال، فإن الزلزال الذي سيحدثه كورونا من خسائر بشرية واقتصادية وسياسية واجتماعية، يحتاج وقتا طويلا حتى يتعافى المجتمع الدولي من تبعاتها.

ومن تبعات كورونا، إعادة النظر في مفهوم حقوق الإنسان الذي كان أقرب إلى الشعارات المسيسة والموجهة، إلى جانب الخدمات المقدمة للإنسان، من صحة وتعليم والوقوف بجانبه في المحن والكوارث، وبذل كل الأنظمة العالمية الغالي والنفيس لمصلحة المواطن، وهو ما شاهدناه في البيان الختامي لمجموعة العشرين التي دعت إليه السعودية، والذي يُعدّ إعلانا عالميا جديدا يستهدف حقوق الإنسان، خلال نقاطه التي تؤكد حماية الأرواح، والحفاظ على وظائف الأفراد ومداخيلهم، وغيرها من التفاصيل التي جعلت الإنسان في المقام الأول.

في أزمة كورونا، شاهدنا كيف تخلّت الدول العظمى عن مواطنيها في الداخل والخارج، كإيطاليا التي استهانت بالفيروس حتى فتك بشعبها، للأسف الشديد. وبريطانيا التي صرّح رئيس وزرائها بأن كثيرا من العائلات البريطانية ستفقد أحباءها، وغردت قنصليتها في الكويت تبلّغ رعاياها بالتوجه إلى الجمعيات الخيرية المحلية الكويتية.

كانت السعودية هي النموذج المحتذى في هذه الأزمة، داخليا وخارجيا.

فقبل أن تُسجل إصابة واحدة في البلد، اتخذت الرياض قراراتها السيادية لمواجهة الأزمة، فأوقفت تأشيرات السياحة والعمرة فورا، ثم تدرّجت في اتخاذ التدابير بأسلوب نموذجي.

وفي الخارج، وفّرت السعودية لرعاياها العالقين في الدول الأخرى أفضل الفنادق، وقدّمت لهم الوجبات المجانية والمصروف اليومي، والعناية الطبية والتواصل الدائم. شكرا مملكة الإنسانية، ودعواتنا لكل شعوب العالم بالسلامة.