بداية الأمر ظننا -كمواطنين- أن جائحة كورونا مُجرد مزحة عابرة، أتَت لتُدغدغ مشاعرنا وتكسر حاجز رتابتنا وتعيد ترتيب فوضانا، فأخذنا في التندّر عليها والاستخفاف بها، أو ربما حدث عرَضي لا يستحق منا الاكتراث، لأنه سرعان ما سينقضي ويزول. حتما لم يكن هذا شعورنا وحدنا، بل شعور معظم شعوب الكوكب التي لم تعبأ لا هي ولا حكوماتها للأمر حتى تفشّى فيها.

كنا نهرب من ضيق المنازل إلى فُسحة العمل، الأسواق، المطاعم، السفر، والزيارات، أما اليوم فبِتنا نلوذ بالمنازل هروبا عن فُسحة الكون بأكمله، فالحسابات قبل كورونا اختلفت عنها بعده.

استغلِّوا فترة العزل المنزلي في القراءة والاطِّلاع، بظنّي هناك أرفف مُترعة بذخيرة لا بأس بها من الكتب في كل بيت. فقط حرِّروها من أسرِها وأخرجوها للضوء واكشفوا عنها الغبار.

دوِّنوا مذكِّراتكم عن هذه المرحلة التاريخية المهمة الجديرة بالتأمُّل والتدبُّر والتدوين، فمع مضي الوقت ستتضاعف قيمتها المعنوية بشكل تدريجيّ، وربما تصبح مادة جديرة بالنشر. ولعل مبادرة «أدب العزلة» التي أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة جاءت لتُعزِّز ما سبق، وتحث الأدباء أثناء فرصة الاختلاء بالذات في التعبير عن مشاعرهم وإنتاج مشروع أدبي لتوثيق الأحداث الحالية، وخلق حالة من التفاعل المجتمعي على وسائل التواصل الاجتماعي تبُثّ روح الأمل والتفاؤل، واكتشاف مواهب أدبية تثري المشهد.

عاصفة كورونا ترفع الغطاء، وتكشف سوءة بعض مشاهير التواصل الاجتماعي وتُعرّي جهلهم، فجزء منهم أخذ يهرف بما لا يعرف عن الوباء، وأخذ في توجيه تعليمات ونصائح طبية وكأنه طبيب مُختص، والجزء الآخر امتنع عن الظهور عبر حساباته بسبب إيقاف المطاعم والمقاهي، فالوجبات والمشروبات الباردة والساخنة كانت أهم محتوى كان يُقدِّمه.

تدخل الصيدلية فيستقبلك الصيدلي بابتسامة تعلو وجهه. تطلب أن تشتري منه علبة كمامات وعلبة قفازات وعلبة مُعقّمات، فيرفض أن يبيعك جُملة ويقنعك أن يبيعك بالمُفرد كي يتسنّى له أن يبيع لأكبر عدد من الناس، مُتذرعا بأن ليس لديه مخزون كافٍ. تتفهَّم أنت ذلك على اعتبار أن الدوافع الماثلة إنسانية، لكن في واقع الأمر الدوافع الباطنة تجارية – ربحية بحتة، فالبيع بالمُفرد أكثر ربحا من البيع بالجملة.

عثرتُ -بمحضِ الصدفة- على مقطع فيديو بتويتر مُجتزَأ على ما يبدو من برنامج تلفزيوني لثلاث سيّدات من جنسية عربية، يجلسن على طاولة مُستديرة لتزيين الكمَّام -ذي الاستخدام الواحد- بحجر الراين ليكون «أشيَك» كمَّام للوقاية من كورونا!

في الوقت الذي ترتعد فرائص شعوب الأرض من شبح كورونا، نجد أن هناك ثُلَّة من البشر لا زالت تُمعِن في تقديم أمثلة سافرة للسطحية والتفاهة دون اكتراث لما يجري في العالم، ودون احترام لمشاعر وعقول الناس.

رغم صعوبة هذه المرحلة إلا أننا كنا بحاجة ماسَّة إليها، ففي أي مرحلة حالِكة على مَرِّ التاريخ لا بد أن نخرج بحزمة من المكتسبات، ولعل أبرز مكتسبات المرحلة الراهنة أنها أعادت ترتيب الصفوف، وأظهرت جهود المخلصين التي تضافرت لخدمة هذا الوطن العظيم، من مسؤولين ومنتسبين لقطاعات مُتفرِّقة وعلى رأسها الصحة والداخلية والحرس الوطني ولا ننسى التعليم والإعلام، وكذلك الشركات والبنوك الوطنية الداعمة لصندوق الوقف الصحي لمواجهة هذه الجائحة. وفي الوقت نفسه، كشفت هذه المرحلة سوءة الانتهازيين الذين استغلوا الأزمة وتاجروا بها شَرَّ متاجرة، لأن لا همَّ لهم سوى الربح، وعرَّت كذلك التافهين والمُهرِّجين وأظهرتهم كما يليق بهم.

مع أزمة كورونا، عاد كثير من المُخلصين ليتبوَّؤوا أماكنهم الحقيقية في الصفوف الأمامية، ليس للبهرجة أو السطوع وخطف الأضواء، بل للذَّود عن الوطن بعلمهم وإمكاناتهم وخبراتهم، وعاد الانتهازيون والتافهون أدراجهم في الصفوف الخلفية حيث الظلام الدامس.