كثرت الشكوى من مستويات الطلاب اللغوية الضعيفة في المرحلة الجامعية، حتى أصبح الضعف اللغوي ظاهرة جامعية تستدعي التدخل والتعامل معها بجدية أكبر. فهناك من الأساتذة من يلقي المسؤولية على المراحل الدراسية السابقة.

وبالمناسبة، هذا الضعف لا يقتصر على مستوى الطلاب في النحو تحديدا، بل يتجاوزه إلى ضعف في مادة الرياضيات واللغة الإنجليزية. وضعف الطالب لغويا لا يعني أن هناك مشكلة في تدريس مادة النحو، بل المشكلة الحقيقية تكمن في منهج تدريس النحو.

ويرى كثير من الكُتاب الصحفيين والمثقفين أن القراءة فقط كافية لتجاوز مشكلات اللغة كافة. فالقراءة المكثّفة تكسب الطالب الملكة اللغوية بالسليقة والمحاكاة، وهذا كلام فيه قدر كبير من التسطيح للمشكلة، وتبسيط لها يبلغ مستوى السذاجة. فهؤلاء الكُتاب والمثقفون ما زالوا يعانون من ارتكاب كثير من الأخطاء اللغوية الشائعة في مقالاتهم الصحفية، ولولا استعانة الصحف المحلية بالمدققين اللغويين لكانت الصحافة الورقية مصدرا كبيرا من مصادر الاستعمال اللغوي الخاطئ، مع أن كُتاب الصحف والمثقفين يقرؤون بكثافة، ولكن قراءاتهم لم تمنع حدوث الأخطاء اللغوية البدائية، وأظن أن المدققين اللغويين في الصحف شهداء على ما أقول.

وخلال متابعتي كثيرا من المغردين في «تويتر»، لاحظت أن المتخصصين في مجال اللغة العربية وآدابها، وطلاب الدراسات العليا في الدراسات النحوية، هم أقل المغردين ارتكابا للأخطاء اللغوية، بل تكاد تكون الأخطاء النحوية عند بعضهم شبه معدومة، فضلا عن تحاشيهم الوقوع في الأخطاء اللغوية الشائعة التي يتداولها غير المتخصصين.

والتفسير -طبعا- لهذه الظاهرة أنهم يدرسون قواعد النحو العربي بتعمق أكبر. فمادة النحو تعدّ مادة أساسية، وهذا أكسبهم مزيدا من الفصاحة والجزالة في حديثهم وكتاباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا الأمر نلاحظه بيسر وسهولة.

يجب علينا أن نعترف بأننا لا نكتسب اللغة الفصيحة بالسليقة، فنحن نتعلمها بعد فوات وقت الاكتساب الطبيعي في مراحل العمر المبكرة، ونتعلمها كما نتعلم اللغة الأجنبية، لأننا ترعرعنا في مجتمع لا يتحدث اللغة العربية الفصيحة، ولذلك لا يمكن الاستغناء عن تدريس النحو في اكتساب الملكة اللغوية، ولكن يجب أن تُدرس قواعد النحو في ظل اللغة وليس بمعزل عن اللغة، وذلك بأن تختار أمثلتها وتمريناتها من النصوص الأدبية السهلة، أو العبارات البليغة التي تسمو بأساليب الطلاب في المراحل المدرسية، وتزيد من ثقافتهم، وتوسع دائرة معارفهم، إضافة إلى ما توضحه من قواعد النحو وتشرحه.

وكما أسلفنا، فإن مشكلة تدريس النحو ليست في مادته ولكن في مناهج تدريسه، ولعل أفضل طريقة لتعليم النحو، يكون عن طريق عرض القاعدة اللغوية وشرحها دون إغراق الطالب في التأويلات والتعليلات، وبعد ذلك تطرح الشواهد الأدبية البليغة بعيدا عن الشواهد اللغوية المتكلفة مثل «ضرب زيد عَمْرا»، وتستبدل بشواهد من القرآن الكريم والأمثال العربية وفصيح كلام العرب، على أن يقتصر في معالجة المسائل على تحقيق الهدف المنشود من تدريس النحو، وهو عصمة اللسان والقلم من الخطأ.

إن أصحاب فكرة الاستغناء عن تدريس النحو والاكتفاء بالقراءة المكثفة، انطلقوا في قراءتهم النقدية من منطلقات قاصرة، تنم عن غياب تصور واضح وعميق لطرق التعلم وما تقتضيه التطبيقات التربوية، فقد أصبح مبدأ التبسيط والتسهيل طاغيا على طرحهم النقدي، حتى صار أصلا من أصول مناهج تدريس النحو لديهم، وأي مسألة من مسائل النحو عندهم لا تفيد مباشرة في التعليم، وفي الحياة اليومية تكون ترفا لا فائدة منه، وهذا الكلام لا يخلو من تسطيح، فاكتساب الملكة اللغوية لا يختلف كثيرا عن اكتساب الملكة العلمية في تفسير ظواهر الطبيعة.

ففي مرحلة الدراسة الجامعية يدرس طلاب الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وعلوم الحاسب، مادتي التفاضل والتكامل في الرياضيات، مع أنهما مقرران في غاية الصعوبة والتجريد، ولن يستفيد الطالب منهما بشكل مباشر في حياته اليومية، ولن يستفيد منهما الطبيب في مجال عمله، ولا المهندس ولا المبرمج ولا الكيميائي، ولكنهما مهمتان جدا في تكوين الملكة العلمية، وتأسيس الطالب علميا بشكل أكثر عمقا.

ونؤكد أن تدريس النحو -مع أهميته البالغة- فإنه يفقد جزءا من أهميته ويتحول إلى مشكلة تربوية، إذا لم يُعط في شكل جرعات متدرجة، من السهل إلى الأقل سهولة، أي التدرج من العناصر اللغوية التي يسهل على المتعلم استيعابها إلى العناصر التي تتطلب نضجا أكثر. على أن يدرس النحو على أنه وحدة متكاملة مع عناصر أخرى، فلا يدرس النحو بمعزل عن الأدب، ولا القراءة تعالج مستقلة عن البلاغة والإملاء والتعبير، وتُعطى هذه الفروع على أنها وحدة متكاملة لتكوّن في مجملها اللغة، والاستغناء عن دراسة اللغة بشكل شمولي، والاكتفاء بالقراءة لن تكون طريقة ناجعة في التأسيس اللغوي السليم، فأي قصور في النحو سيؤدي بالضرورة إلى قصور في وظيفة اللغة، وأي قصور في اللغة سيؤدي إلى قصور في الفكر والتواصل معا.