لماذا هذا العنوان الآن؟ لأننا بصراحة نعلم أننا خلال تربيتنا لأبنائنا نركز على سعادتهم ونهمل خصائص لا بد أن نعيرها شيئًا من الاهتمام والانتباه، لِما لها من أهمية في حياتهم فيما بعد. الاحترام هو إضافة إلى عامل الانضباط مع التأكيد على الإصغاء والتواصل، وهذه الأخيرة مهمة كونها تفتح باب الحوار وتبادل الأفكار ونقل المعرفة والتراث إلى الأبناء، عدا عن أن في ذلك دليلًا على أننا معهم على الرغم من تسارع أحداث الحياة من حولنا، وعلى أننا نعتبرهم المركز ونثمن أوقاتنا معهم بحيث نتعرف على رغباتهم ومخاوفهم ونلبي احتياجاتهم، ومن هنا نستطيع أن نربط عامل الانضباط بالتوضيح والإصرار على الالتزام والمتابعة مع كثير من الصبر، ومن ثم نلتفت إلى الاحترام، وهنا الأمر ليس بالسهل أيضا، ولكن يجب علينا ألا نهمله، فهذا عامل مهم لهم في كيفية التعامل مع الحياة بنجاح فيما بعد، إن استطعت أن تربط بين هذه المتطلبات الثلاثة فسوف تصل بهم بإذن الله إلى بر الأمان.

تحدثت في مقالة سابقة عن فن الإصغاء، وفي أخرى عن التواصل، وهنا أجد أنه حان الوقت للحديث عن الاحترام، انشغلنا بالتركيز على كيفية جعل أبنائنا سعداء، أي جعلنا المحور الأساسي لهم هو تلبية رغبات الذات! لكن هذه الذات لن تعيش في عالم خاص بها داخل فقاعة تسير بين البشر! هنالك اتصال وتواصل وتفاعل، هنالك أحداث ومفاجآت وتحديات، ماذا سيحدث لتلك الفقاعات عند أول مواجهة؟ لنفكر عند التدليل والخوف المبالغ به أو حتى التجاهل التام للمستقبل، هل نحن نلتزم بتربية أبنائنا لمواجهة العالم كبالغين ناجحين؟ إن ركزنا على إرضائهم فقط فنحن بذلك في تعارض تام مع الواقع وما سينتج أبناء غير قادرين على مواجهة العالم من حولهم! الحياة كما قلت مليئة بالتحديات التي أحيانا قد تكون خارج التصور وحتى التخطيط المسبق لا يكون قد وصل إليها وفكر فيها، وهنا المحك، فإن كان الإنسان قد تعود على مشاعر معينة مرتبطة بتلبية الرغبات والشعور بالأمن الدائم فقط فلن يكون مستعدا للحظات الحياة المحبطة، ولن يكون مستعدا للتفاعل مع الفشل والرفض والألم! نرى اليوم الكثير من الآباء يصرون على أن يحصل أبناؤهم على الدرجات العالية، حتى انتقل هذا إلى الأبناء، فجلّ همهم ليس النجاح فقط بل النجاح بتفوق! وكأن الجميع على مستوى واحد من الذكاء والقدرات والمهارات! ويقيمون الدنيا إن تم إنقاص نصف درجة ناهيك عن ثلاث أو أربع درجات! أصبح العالم بالنسبة لهم قيمة عددية لا قيمة علمية! وإن كانت الفصول الدراسية تحتوي على عباقرة، فلِمَ نجد سوق العمل يشتكي من ضعف المخرجات؟ حتى الطلبة أنفسهم يشتكون بعد التخرج من المتطلبات التي لم يجهزوا لها! وعند أول مواجهة مع الفشل بدلا من البحث وتشخيص نقاط الضعف والعمل على علاجها، يظهر التذمر والشكوى، وتبدأ أصابع الاتهام تشير إلى كل الاتجاهات إلا إلى الذات! وهنا بدون مهارات التكييف مع الفشل، ومع عدم إدراك نقاط الضعف أو حتى الاعتراف بها، يكون الأبناء في خطر! نعم في خطر، لأنهم قد لا يصمدون أمام شراسة سوق العمل وصدمات الحياة، بل يجهلون كيفية إدارة صعوبات الحياة!

السعادة ليست من الخارج، بل من الداخل، وإن جعلنا أبناءنا يتوقعونها من الخارج، أي: ممن هم حولهم، فنحن نحكم عليهم بالشقاء. نريد أن نعدّهم لعالم معقّد، ونجعلهم يواجهونه بقوة وثقة بالذات وعزم وإصرار، بحيث يتم لهم التقدم والنجاح، ولكن هذا لن يحدث إن كان جلّ اهتمامهم انتظار السعادة عند كل منعطف؛ من خلال الدرجات، أو سبل الترفيه، أو تلبية الرغبات، وكأننا إن لم نبين لهم لا نحبهم ولا نرغب في إسعادهم! عندما نعلمهم ونجهزهم أن يتوقعوا وبشكل واقعي أن عليهم أن يعملوا بجد لبناء حياة ذات معنى ليس فقط على المستوى الشخصي، بل على المستوى الإنساني أيضًا، وأن الاحترام يبدأ من الذات، ومن ثم يفرض من خلال السلوك وليس التوقع، وأن الانضباط يؤدي إلى الاحترام، وأن سلوك الإنسان وتفاعله مع الموقف في إطار الأخلاقيات والمبادئ النبيلة يساعده على التوصل إلى الحلول والتوصل إلى الغايات، لكن بالإيمان بأننا نستحق ووجب على الآخر أن يلبي! هنا الطامة الكبرى! لأن السلوك الذي سينتج حين لا يتم الأمر هو التعرض والتعدي أو الانكسار والتراجع؛ وفي كلتا الحالتين يؤديان إلى الفشل المؤكد بخسارة الحق إن كان هنالك حق، أو بالعداوة أو بالانتهاء وحيدا يصارع طواحين الهواء! نعم نريد لهم السعادة، ولكن نريد منهم أيضًا أن يجدوها من خلال جهدهم وتفاعلهم الصحي مع تقلبات الحياة حتى عندما تضربهم التحديات القاسية، لذا فلنركّز على الإصغاء إليهم، ولكن لنبذل جهدا كبيرا في العمل على تدريبهم على الانضباط والاحترام بدءا من ذاتهم وانتقالا إلى العالم من حولهم.