توفر لنا الإحصاءات المتوالية للقوى العاملة، رؤيةً حقيقية عن واقع سوق العمل، وبما يتضمنه من بيانات تفصيلية عن واقع مواردنا البشرية، إذ تُعد البيانات الإحصائية سجلا رسميا يوثق مدى مشاركة المواطن بمجمل تفصيلاته المعلوماتية عن خصائص القوى العاملة في الوطن، والتي من خلالها يمكننا استيعاب ما يجري من اختلالات في سوق العمل، وما يواجهنا من تحديات، وبما يسهم في تصحيح كثير من السياسات التنموية ذات الصلة بالموارد البشرية العاملة في القطاع العام والخاص بصفة عامة، وبمواردنا على وجه الخصوص.

تشير نتائج مسح القوى العاملة للربع الرابع من 2019، إلى أن هناك اختلالا واضحا في استيعاب سوق العمل للمواطن، وأن هناك تحديات تحد من توظيفه وتُعيق تمكينه، على الرغم من انخفاض نسبة مشاركة المواطنين في القطاعات التنموية المهمة. وتتضح الصورة أكثر عند المقارنة بين بيانات متوالية، والتي تعكس مدى تأثير السياسات المنفذة والإجراءات المتبعة، فيما يتصل بالقوى العاملة والتوطين المستهدف في توجهات رؤيتنا الوطنية 2030.

هناك كثير من التفصيلات التي تؤكد ذلك الخلل في سوق العمل، والذي يشمل بناءه الهيكلي بما يلحقه من أنظمة وتشريعات، وما يتعلق بمكونه من الموارد البشرية. وإذ إن المجال لا يتسع لتناول ذلك جميعه، فإن مناقشة بعضه، سيلقي الضوء على شيء من تلك الاختلالات المذكورة.

تشير إحصاءاتنا الوطنية في نشرتها الأخيرة إلى أن هناك 13.390.975 فردا يمثلون مجمل القوى العاملة، يشمل ذلك القطاعين «الحكومي والخاص»، بما فيه العمالة المنزلية، ولا يمثل المواطن من ذلك العدد سوى 3.170.272 مواطنا، إذ لا تتعدى نسبته 23.6 % من ذلك العدد، في حين يستأثر غير المواطن بنسبة 76.3 % من مجمل القوى العاملة.

ومما يلفت الانتباه في تلك الإحصاءات، ذلك الارتفاع الكبير في عدد العمالة المنزلية، بل والنمو الكبير لحجمها في فترة قصيرة جدا، والذين يشكلون وحدهم نحو 9 % من القوى العاملة، بعدد 3.690.719 في الربع الرابع من 2019، بعد أن كانوا 3.252.785 عامل/‏‏ة منزلي، في الربع الثالث من العام نفسه، بما يقارب زيادة تصل إلى نحو 450 ألف في 4 أشهر فقط، هل يعقل ذلك؟!

وبمتابعة البيانات الإحصائية يتضح لنا -وبقوة- ذلك الخلل الكبير في انخفاض نسبة مشاركة المواطن في القطاع الخاص الذي يمثل الكيان الاقتصادي المستهدف في التوظيف والتوطين، والتي لا تتعدى نسبة 20.8 % في الربع الرابع من 2019، بعد أن كانت 20.4 % في الربع الثالث من العام نفسه، بينما ترتفع مشاركة غير المواطن إلى نسبة 79.10 % في الربع الرابع، بعد أن كانت 79.5 % في الربع الثالث، مع ثبات معدل البطالة عند المواطنين لنسبة 12.0 % للفترتين!.

ومن الذي يدعو إلى العجب -من جانب آخر- أن تجد هذا الفرق النسبي، في انخفاض مشاركة غير المواطن في القطاع الخاص بين الفترتين المذكورتين، قد عوضه ارتفاع في القطاع العام «الحكومي» لغير المواطن، والذي سجل نسبة مشاركة 6 % من القوى العاملة في الربع الرابع، بعد أن كان يشارك بنسبة 5.3 % في الربع الثالث من العام نفسه.

ومما يلفت الانتباه في البيانات، أنه في حين يحال المواطن إلى التقاعد بحكم النظام في الـ60 من عمره، إلا في استثناءات بسيطة -للأكاديميين وغيرهم من الدرجات «الممتازة»- فإن الإحصاءات تذهلنا هي الأخرى، بأن عدد من يعملون من فئة السن 60-64 من غير المواطنين في القطاع الحكومي والخاص، يفوق بكثير عدد المواطنين الذين نستغني عن خدماتهم وخبرتهم بحكم سن التقاعد، بينما نتعاقد مع غير المواطن، ممن يماثلونهم في السن، أو نمدد لهم في خدمتهم دون إنهاء التعاقد معهم!.

إذ تشير إحصاءات مسح القوى العاملة للربع الرابع من 2019، إلى أن عدد المواطنين العاملين في القطاع الحكومي، والخاضعين للوائح الخدمة المدنية، من فئة السن 60-64، لا يتجاوز 1302 مواطن، بينما يرتفع العدد لغير المواطن إلى 3292، وتظهر الطامة الكبرى في القطاع الخاص لمن هم خاضعون للتأمينات الاجتماعية، إذ تنخفض فيه مشاركة المواطن لتلك الفئة العمرية إلى عدد 21248 مواطنا، بينما تتضاعف النسبة لغير المواطن إلى 182.053!.

لا شك أن تلك الإحصاءات بما تتضمنه من بيانات تفصيلية موثقة، تدق ناقوس الإنذار، وتلفت الانتباه إلى أهمية المسارعة لمراجعة سياساتنا التنموية وتصحيحها في مختلف القطاعات، من العام والخاص، للدفع نحو مزيد من الإجراءات الحاسمة والإصلاحات العاجلة التي تخدم تطلعاتنا التنموية ورؤية 2030، في الاهتمام بالتوطين، ورفع نسبة مشاركة المواطن في القطاعات كافة، وقد أثبتت التجارب والأزمات أن المواطن هو القاعدة التي يرتكز عليها الوطن، وأنه صمام الأمان لوطنه، وهو نتاجه وثمرته وفخره.