قرابة ربع القرن من الكتابة لا أظن أني أفردت مقالا لأجل إنسان، باستثناء القيادة السياسية التي أكتب عنها بحدين لا أزيد عنهما أو أنقص، أستعيد فيه ما كتبته عن خالد الفيصل عام 2009 كأحد رموز السلطة السياسية الكبار، وكيف أنه (قريب منا حد تلمس مشاكلنا، وبعيد عنا حد حفظ أنفتنا أن يكسرها بسطوة الحكم والإمارة)، فبين هذه وتلك كتبت، وما زلت أكتب، لم يردني فيها اتصال واحد يقول لي: أكتب عن كذا أو نمنعك عن كذا، قد أخرج من الملعب إلى دكة الاحتياط لبعض الوقت (شاكراً من وصفني بأني يوسف الثنيان في الفكر والثقافة، عاجزاً أن أكون سامي الجابر، وما زلت على عجزي يا صاحبي)، أعود دائماً إلى صفحة الرأي، ككاتب مجتهد.

هذه المقدمة الموجزة لأسلط الضوء على مثقفة عسيرية، نشر لها نادي أبها برئاسة الأب الكبير محمد بن عبدالله الحميد -رحمه الله- ما (ربما) يعجز النادي الآن أن ينشر مثله ضد التزمت الديني، وهو كتاب (خلف أسوار الحرملك)، فالنوادي الأدبية كما سبق وأوضح أحد رؤسائها السابقين، محمد زايد الألمعي (لم تعد أندية، فقد أصبحت قطاعا في الوزارة، وليست مؤسسات مستقلة، ولم تعد أدبية فقد دشنها الأكاديميون مستراحاً ومنفذاً للفائض من درسهم الجامعي، وبدلاً من أن يدعوهم الأدباء لإثراء الأندية، أصبحوا هم يدعون الأدباء لتزيين منابرهم ببعض الإبداع، وشخصيا لم تعد تعني لي شيئا، فهي فضاء منتهك بغير أهله).

عائشة بنت عبدالعزيز الحشر، التي افتتحت أحد كتبها بإهداء تقول فيه (إلى ذكرى والدي الذي اخترقت قلبه رصاصة... فسقط جسده بين الكعبة والمقام وظلت نجوم رتبته العسكرية تلمع فوق كتفيه تحت شمس ظهيرة يوم الثلاثاء الموافق 15 محرم 1400..) أثناء تطهير الحرم من جهيمان وأتباعه، لتكبر هذه الصغيرة وبداخلها قلب كهل، لسان يسأل، وقلب يعقل، تقول عنها منى بنت ناصر بن عليان الكودري: (عائشة الحشر بحسب معرفتي لها، ليست محبة للوهج الإعلامي، وثقتها بنفسها تتجاوز كل من يحاول تهميشها أو تغييبها، واعية وتعرف ماذا تريد منذ أن كنا في المرحلة الثانوية، كان عقلها يكبرنا بمراحل عديدة.. ثقافتها حقيقية وعميقة وليست كغيرها من مدعيات الثقافة أو من خدمتهم الشللية وأبرزتهم..).

تقرأ لها كتاب (خلف أسوار الحرملك) فتدرك صدق المعاناة والهم الحقيقي، صحيح أن الكثير كتب عن الصهويين عفواً الصحويين، لكن الكتابة الصادقة عنهم تعيد لي إشكالاً قديماً بعد كلمة قينان الغامدي قبل سنوات التي طارت بها وسائل التواصل (في كل بيت داعشي)، إذ كنت أرد على من يهاجم صدق هذه العبارة بأن أقول له: دعني أمثل معك دورا سيكشف صدق عبارة قينان من عدمها، ثم أبدأ أتلبس دور أحد دعاة داعش، فأستظهر الأدلة التي يستشهدون بها لدعوة الشباب للالتحاق بهم، وأطلب ممن لا يصدق قينان أن يرد على الأدلة التي أخذتها عن داعش، وكانت المفاجأة أن كل بيت بكل من فيه يلعنون داعش آنذاك، لكنهم يفشلون في الرد على أدلتها، بل يهربون إلى الهجوم بأن ذلك من التشكيك في الدين، وبقول آخر، فإن من يلعن داعش والصحوة، وهو عاجز عن نقد أدلتها وتخريجاتها الفقهية، فهو مجرد مساير للمرحلة غير مقتنع بخطئها، وأخطر أخطائها هو تجهيلنا بحقيقة ديننا وما فيه من تسامح وتعددية وكرامة حقيقية للإنسان دون طائفية أو عرقية أو جندرية.

في كتبها الأربعة تجاوزت عائشة بنت عبدالعزيز الحشر قنطرة الإنشائيات في لعن الصحوة وشتمها، إلى تفكيك إطارها الديني والتربوي عبر كتابها (خلف أسوار الحرملك)، ثم تفكيك إطارها التاريخي من خلال روايتها (التشظي)، ثم تفكيك إطارها الاجتماعي من خلال روايتها (سقر)، ثم التفكيك الأيديولوجي للواقع الذكوري عبر التاريخ واللغة والآثار والأساطير والديانات بما يتجاوز أطروحات الغذامي النسقية -لا تستغربوا- فكتاب عائشة الحشر الثقافي (أنوثة السماوات والأرض) يتجاوز مدرسانية الغذامي المختنقة بثقافة تستبطن الذكورية عبر إقرار الفحولة كقدر لغوي عربي تنفيه عائشة الحشر بكل اقتدار وبمساحة قراءة أوسع شملت اللغات السامية وغيرها.

لماذا كتبت هذا المقال؟ لأن النجمة الخماسية لمقاتلي الفعل الثقافي الصحفي في المشهد السعودي حسب شهادة هاشم الجحدلي (علي الرباعي، علي فايع الألمعي، زكي الصدير، طامي السميري، محمد عزيز العرفج) لم تتمكن من إجراء حديث صحفي كما يليق بمنجزها الثقافي، وقد عذرتهم فقد تأكد لي أنها (تتجنب لقاءات الصحافة والفضائيات، ولا تحب الأضواء لأسباب عدة منها ظاهرة «الحريم الثقافي» وتفضل أن يكون كتابها بين أعين الناس وليس هي)، وإلى صديقي الذي يصفني بأني يوسف الثنيان وعاجز أن أكون سامي الجابر، أقول: هذا هو يوسف الثنيان الحقيقي على مستوى الثقافة والفكر/ عائشة الحشر، وما زال السؤال بالنسبة لي قائماً حتى الآن: من الذي انتصر.. رصاصة جهيمان أم قلم عائشة؟ من يقول: قلمها انتصر، فليقرأ روايتها التشظي ثم يعد السؤال على نفسه من جديد.