في حديث لمدير عام منظمة الصحة العالمية «WHO» الدكتور تيدروس أدهانوم، رسم صورة للواقع النفسي لما بعد كورونا ووصفه بأنه لا يقل شأنا عن واقع كورونا الجسدي، وأن هناك العديد من المشاكل والاضطرابات النفسية المُصاحبة أو الناجمة عن انتشار الجائحة. مثل هذا التصريح من موقع رجل مسؤول بحجم مدير عام المُنظمة، يجب أن يُوخذ بعين الاعتبار ولم يأت من فراغ وإنما وفقاً لدراسات مسحية حول العديد من دول العالم. لعلني في هذا المقال أوضح الموقف وماذا علينا فعله لتفادي نتائج انتشار جائحة كورونا النفسية. وقبل البدء أود القول إن انتشار كورونا مَثل ضغطا نفسيا شديدا «Stress» نتيجة خشية الإصابة بهذا الفيروس وما يتبع ذلك من نتائج صحية على المستوى الفردي والأسري والمُجتمعي والمؤسساتي، وكذلك الإغلاق الكامل «Lockdown» وما قد يُصاحبه من وضع اقتصادي ومعيشي، رغم أن الدولة أعزها الله تكفلت بالجميع ودعمت دعماً غير محدود، ولكن يبقى عند الناس هاجس الخوف والذي يقود لمزيد من الضغط النفسي، ومن ناحية أخرى الإبعاد المنزلي وما يترتب عليه من ضغط نفسي يُضاف لما سبق.

واقع الناس بعد كورونا على فئات ست، الأولى وهي فئة «صحية» مثَّل لها هذا الضغط النفسي تحصينا ووقاية من ضغوط نفسية حياتية، بما يُعرف بالتحصين ضد الضغوط «Stress Inoculation»، وبالتالي وعند التعرض لضغط نفسي مُستقبلي، يُصبح لديها مناعة، الثانية وهم ممن لديهم اضطرابات نفسية مُشخصة قبل تفشي الجائحة، وهم تحت العلاج أو ليسوا مُشخصين ولم تُقدم لهم الخدمة النفسية لاعتبارات قد تتعلق بهم، لذا ستزيد مُعاناتهم النفسية سوءا، الثالثة أسوياء قبل الجائحة ولكن قد تظهر عليهم أعراض نفسية نتيجة انتشار الجائحة، والتي تتمثل في اضطرابات القلق عامة والوساوس القهرية والفزع والاكتئاب، ومنهم من لديه القابلية «Vulnerability» لنشأة الأمراض النفسية الحدية بما يُعرف بنموذج أهبة الإجهاد «Diathesis-stress model» والذي من خلاله قد تظهر عليهم عوارض نفسية حدية «Psychotic Features»، الرابعة وهم ممن أُصيبوا بكورونا وتعافوا منه وهم على شقين، أولهما من شُخص به وكانت أعراضهم تتدرج من البسيط إلى المتوسط، وهنا صدمة «Trauma» وضغط نفسي لهم، واللذان قد يُفضيان إلى ظهور اضطراب كرب ما بعد الصدمة «PTSD» وما يتبعه، وثانيهما هناك من كانت أعراضهم شديدة وتعرضوا للتنفس الصناعي، أمثال هؤلاء قد يظهر عليهم بعض من العوارض المعرفية العصبية، وربما يُعانون أيضا من اضطراب كرب ما بعد الصدمة، الخامسة وهم ممن تعرضوا للحجر الصحي «Quarantining» ومنهم من قد تظهر عليهم اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطراب كرب ما بعد الصدمة، الأخيرة وهم المُمارسون الصحيون ومن في حكمهم من رجال الأمن والخدمات اللوجستية بكل صورها وأشكالها والذين تعرضوا لمواطن الفيروس كخدمة علاجية أو مُجتمعية، أمثال هؤلاء قد تظهر عليهم عوارض نفسية مثل اضطرابات القلق والاكتئاب والوساوس والهلع وكرب ما بعد الصدمة أيضا. مثل هذا تم رصده من خلال المُسوحات النفسية الأولية «Primary Psychological Screenings» وليس حديثا يُفترى، وكذلك هناك تنبؤات صحية «Predictions» بظهور المزيد.

ليست القضية هنا مُجرد الحديث عن واقع الصحة النفسية لما بعد كورونا فحسب وإنما الأمر يتعلق بما نحن فاعلون للتصدي لمثل هذا الواقع النفسي بعد زوال الجائحة بحول الله. بذل نظامنا الصحي وما زال يبذل جهودا جبارة فاقت كل التوقعات وتجاوزت كل الافتراضات، شهد له القاصي والداني في المجال الوقائي والعلاجي، يُشكر عليه، ما أخشاه هنا هو التساهل فيما قد يُعرف بالوجه «الناعم» لجائحة انتشار كورونا، ألا وهو الوجه النفسي أو الصحة النفسية، وسبب خشيتي أن الصحة النفسية في العادة تفوز بأقل الاهتمام من صُناع القرار الصحي مُقارنة بالصحة الجسدية والتي تأخذ الأولوية عادة، والصحة الجسدية والنفسية وجهان لعملة واحدة، فإهمال أحدهما سيطيح لا شك بالآخر لا محالة، على العموم هناك اعتبارات في سياق التفريق بينهما سوف أُفرد لها مقالا خاصا في القريب العاجل.

هنا أقترح على وزير الصحة تشكيل فرق عمل «Task Forces» من الآن لدراسة واقع الصحة النفسية لما بعد تفشي كورونا، للتصدي لمثل هذه الإرهاصات النفسية والتي سوف تُعقد مشهد الصحة النفسية الذي كان بحاجة إلى إصلاح «Reform» قبل انتشار الجائحة، فكيف بواقعه بعد؟ وكذلك تطبيق مُخرجات العلوم السلوكية الصحية في المجال الوقائي والتركيز على برامج الصحة العامة الشمولية، ما زال هناك بقية من حديث حول منظور مُقترح لتطوير قطاع الصحة النفسية.