صديقي الناقد أفادته دراسته الأكاديمية حتى بات يكتب ويتحدث عن الكتب في وسائل الإعلام بكلام غاية في الجدية والفائدة دون أن يقرأها. معرفتي بهذا الموضوع ومعرفته أنني أعرف، جمعت بيننا في رباط إنساني حميم، والجميل في هذه الصداقة أن الموضوع هذا هو أعمق ما يعرفه كل منا عن الآخر، ونحن عندما نترافق داخل محفل أو على منصة، لا بد أن تلتقي عينانا قبل شروعه في الكلام أو في أثنائه أو في نهايته، وحينئذ تأخذنا البهجة كل مأخذ، لا أعرف كيف أبدو حين تأخذني، ولكني أراه حين تأخذه وقد اتخذت ابتسامته الطرية منحى أنثويا، بينما هي تتحول حثيثا إلى ضحكة مكتومة يرتج لها كرشه الملموس، ويرتفع معها حاجبه بينما تتسع عيناه بولهٍ عميق لينهيها -الضحكة- وهو يعض على شفته السفلى، ويهز وجهه يمينا ويسارا في نوع من التلذذ غير المألوف، ثم تعاوده الرصانة ويميل إلى الميكروفون وقد أجهد غاية الإجهاد ليواصل كلامه الذي هو غاية في الجدية والفائدة عن تلك الكتب التي لم يقرأها.

رأيته قبل شهور في سهرة تلفزيونية خصصت للحديث عن العلاقة بين الكيت كات كفيلم، ومالك الحزين كرواية أخذ عنها نص هذا الفيلم، المذيعة اعتقدت مع الوقت أنه يخلط بين الكيت كات وفيلم آخر تجهله تماما، لذلك راحت تذكره بالوقائع عله ينتبه على موضوع السهرة، بينما هو سادر في غيه لا يلوى على شيء، وينسرب مبتسما من تلك المآزق العابرة بنعومته المعهودة. هذا عن المذيعة، أما عني فقد كنت واثقا أنه يتحدث فعلا عن الرواية التي لم أكتبها.

ما أدهشني أن العلاقة الخاصة جدا بيننا لم تشفع لي ودفعه حتى إلى مجرد إعادة النظر في منهجه هذا، من أجل خاطري على الأقل أنا الذي أعرف سره من ناحية، وتحسبا للقاء سوف يتم بيننا بعد فعلته هذه من الناحية الأخرى. المهم أن هذه العلاقة الخاصة جدا بيننا، والتي قامت على المشاركة في سر لا يعلمه سوانا إلا الله وحده، اكتسبت بمرور الأيام طابعا روحانيا جعلتني لا أعرف فقط أنه لم يقرأ هذا الكتاب أو ذاك لأنني سبق لي وقرأته، ولكنني أصبحت أعرف أيضا أنه لم يقرأ هذا الكتاب الذي يتحدث عنه رغم أنني لم أكن قد قرأته، صديقي الناقد دخل المستشفى وأجرى عملية جراحية. وأنا ذهبت لعيادته برفقة آخرين وقد حملت في يدي باقة ورد صغيرة رأيته على ظهره مضمدا، وقد ارتفع بطنه إلى أعلى، ولفت نظري أن الدولاب المعدني الصغير الذي يجاور سريره عليه كمية كبيرة من الكتب، وهو ما إن أدرك أنني رأيت الكتب والتقت عينانا حتى أخذتنا البهجة، كالعادة، كل مأخذ وما إن بدأ كرشه الملموس يرتج غبطة حتى ارتفع صراخه أملا وهو يضغط على موضع الجرح، ويرفص بساقيه القصيرتين غير قادر على التوقف، صديقي الناقد كاد يموت فعلا بين دهشة الحضور لولا مغادرتي المتباطئة لهذه الحجرة.

*1998

* صحفي وروائي مصري

«1935 - 2012»