اهتم فلاسفة فن العيش، من ضمن ما اهتموا به، بما يمكن أن نطلق عليه «العمل على كبح جماح شهوة الاستهلاك غير الضروري»، تلك الآفة التي تستولي على الإنسان، في فترة مواتية من حياته، فتُصَيرِّه عبدا لها، بعد أن كان متحكما في رسنها.

الاستهلاك المذموم هنا يتجه تحديدا إلى الاستهلاك الكمالي، أي اقتناء واستهلاك ما يسمى اقتصاديا بـ(السلع الكمالية)، تلك السلع التي لا تتوقف الحياة عليها، كما هو الأمر مع السلع الضرورية.

للمفكر المغربي سعيد ناشيد كتاب بعنوان (الطمأنينة الفلسفية)، خصص فيه فصلا وسَمَه بـ(صيدلية أبيقور)، وأبيقور هذا، كما نعرف، هو ذلك الفيلسوف اليوناني، الذي أسس فلسفة أخلاقية عُرفت لاحقا بـ(الأبيقورية)، وتُعنى بوصفة لعيش إنساني بسيط لا تكلف فيه، عيش يراعي الحالة الطبيعية للإنسان من جهة، وقوانين الطبيعة من جهة أخرى، حتى يتيسر للإنسان أن يعيش حياته بطمأنينة وبكفاية. كتب ناشيد تحت هذا الفصل عنوانا فرعيا وَسَمَه بـ(داء عدم الاكتفاء)، قال فيه: «لعل مظاهر الاستهلاك المفرط، وأيضا الاستهلاك الباذخ، تعبر عن سطوة الرغبات غير الطبيعية، وغير الضرورية، والتي نجحت تقنيات التسويق الحديثة في تأجيجها، إلا أنها ليست سوى مظاهر لأعراض عدم الاكتفاء».

ثمة أسباب متعددة وراء الاستهلاك الكمالي، والذي يُشقي الروح، ويتعب البدن، ويُفقد الطمأنينة، إلا أن (ناشيد) يحصرها في سببين، أولهما: استلاب الوعي أمام الدعايات والتسويق، وثانيهما: الاستلاب النفسي الذي يجعل الإنسان يتخلى عن نزعته الفردية، ليتماهى مع آراء الآخرين.

غياب النزعة الفردية، واستلاب الوعي أمام ضغط تقنيات التسويق الحديثة، ينزع من الإنسان أخص خصائص ذاته، وهي قدرته على تقييم نفسه بنفسه، بدلا من توسل آراء الآخرين، إما بمحاكاتهم، وإما بانتزاع إعجابهم الموهوم، بما قد يركبه من سيارة فارهة، أو ساعة ثمينة يلبسها، أو حتى ماركة عالمية لحذاء ينتعله.

في ظل استلاب الوعي، وتضعضع النزعة الفردية تصبح قيمة الإنسان مربوطة بما يحصل عليه من سلع كمالية مثمنة، لا لأنه بحاجة إليها، بل لأنه يعتقد أن الآخرين يرمقونه بأعينهم إعجابا، أو حسدا، وعندها تكون ذاته مقدرة، حسبما يتوهم.

في العصر الحاضر، قد يستلب الوعي أمام بريق الجماهير الافتراضية في منتديات التواصل الاجتماعي. لذلك، نعايش من يشدون رحالهم إلى أقاصي دول العالم، ويصرفون الأموال الطائلة، لا لكي يمتعوا نظرهم بمشاهِدِ الطبيعة، ولا لكي يرتقوا بذائقتهم الفنية والفكرية، بزيارة المتاحف والمكتبات، وإنما فقط لكي يصوروا أنفسهم وهم في تلك الرقعة القصية، ثم يبثوا تلك الصور عبر حساباتهم التواصلية، ليقولوا للآخرين، بلسان الحال: نتوسل إليكم أن تشاهدونا، وأن تُعجبوا بنا، لكي نكون شيئا مذكورا أمام ذواتنا المنكسرة!

بل إن حمى الاستهلاك الكمالي لتضطر أناسا محدودي الدخل، وبعضهم يلجأ إلى الاستدانة، إلى أن يسافروا إلى دول الشرق والغرب، والغاية التقاط صور هنا، وصور هناك، وبثٌ لها هنا، وبثٌ لها هناك، قصد توسل الإعجاب من الآخرين، وبعد ذلك، ليكن ما يمكن، فذواتنا، كما هو لسان حالهم، لا يمكن أن تسترد كينونتها إلا من خلال تقييم الآخرين، ولعمري فإنه استلاب ما بعده استلاب.

ثقافة عدم الاكتفاء، مصحوبة بانخفاض تقدير الذات، تجعل قيمتنا أمام الناس مرتبطة، لا بمعنوياتنا، ولا بإنسانيتنا، بل، ولا بما نحمله من علم أو فكر، بل بما نلبسه، أو نركبه، أو ننتعله من ماركات غالية الثمن، لسنا بحاجة إليها، بل إنها ترهقنا ماديا ومعنويا، حين نرهن ذواتنا إليها.

مما هو محسوب، مثلا، على شهوة الاستهلاك الزائفة، قيام بعض الناس، وخاصة فئة الشباب والشابات، بالبحث عن متع موهومة في أماكن لهو، أو سهر، أو مطاعم، أو فنادق باهظة الثمن، لا لجودة ما تقدمه، فضلا عن أنهم ليسوا بحاجة إلى ما تقدمه تلك الأماكن، بل بسبب شهرتها العالمية، فقضاء وقت قصير فيها، وتناول أكلة، قد لا تكلف إلا بضعة ريالات في أماكن غير شهيرة، مقابل مئات، أو آلاف الريالات في تلك الأماكن الفخمة، ربما يَرُدُّ إلى الذات الفاقدة لأصالتها شيئا من قيمتها!

كانت الأبيقورية، في سعيها نحو تكريس الحياة البسيطة والصحية، تدعو إلى حالة عيش يكتفي فيها الإنسان، ليكون سعيدا، بخلو جسمه من الألم العضوي، وخلو نفسه من الألم النفسي. وهذه غاية أماني الذات غير مستلبة الوعي، وغير المستلبة نفسيا. ولكن أين هي تلك النفس التي ترضى أن تعيش وسط حمى الاستهلاك الكمالي المعاصر، بفلسفة أبيقورية ترضى من الغنيمة براحة البال وهدوء النفس؟.

ثقافة عدم الاكتفاء، مصحوبة بانخفاض تقدير الذات، تجعل قيمتنا أمام الناس مرتبطة، لا بمعنوياتنا، ولا بإنسانيتنا، بل بما نلبسه، أو نركبه