في زاوية من حارة الشامية، وعلى مقربة من مركاز العمدة، كان هناك منزل الشيخ صديق أبو الليل، وكان من الرجال الذين اشتهروا بالمروءات والفزعات، وقد أفاء الله عليه بالكثير من النعم جعلته يحتل مكانة بارزة بين رجالات الحارة، وهو من جلساء مركاز العمدة، ومن الرجال الذين يهتمون بأعمالهم، ولكنه يعطي جزءا كبيرا من وقته للاهتمام بقضايا الناس، وخصوصا «الولايا» والضعفاء والأيتام في الحارة. مر الشيخ «صديق» بمركاز العمدة مسلما وانعطف إلى الزقاق ودخل البيت كعادته يسبح ويذكر الله. استقبلته زوجته نور عند أعلى الدرج مرحبة وفرحة، ترتدي الكرتة وعلى رأسها المحرمة، ومدت يدها لتأخذ يده لتقبلها كعادة مثيلاتها من النساء في الحارة، وانحنى هو يقبل وجنتها ويدعو لها. ثلاثة أطفال في منتهى البراءة واللطف أقبلوا عليها في غير خوف، أخذت تحضنهم وبدأت تعرضهم على والدتها وعلى أختها وعلى بقية من في البيت ثم التفتت إلى زوجها: يا صديق دول أولاد مين؟

هادول أولاد أعزاء على نفسي يا نور، كنت جالس في المركاز عند العمدة وجبتهم معاي هنا نفرحهم ونكسب ثوابهم.

طيب أولاد مين هادول؟

صمت ولم يجب، وكررت: أمهم مين وأبوهم مين يا صديق؟

وقال في تلعثم: أمهم ماتت الله يرحمها.

لا حول ولا قوة إلا بالله يا عيني عليهم هؤلاء الضعفاء ومين رباهم بعد كده.

أهل الخير يا نور والحمد لله كبروا الآن زي ما انت شايفة.

ويأخذ مكانه ويبدأ في تناول الشاي وتقرب له نور المنفوش وتعود الوالدة إلى الحديث: يا بنتي هادول الأولاد سبحان الله يشبهوا صديق جوزك لا إله إلا الله الخالق!

ويحاول صديق إبعاد الحوار قليلا، ويسأل: إيش أخبار بيت العمدة؟

وتعود الوالدة إلى الحديث: لكن ما قلت لي يا صديق، صحيح الأولاد يشبهوك، وإيش حكاية هذا الشبه.

يا ستي قلت لك يخلق من الشبه أربعين، وخلينا نشرب الشاي ونروق، وفضينا من السيرة، وخصوصا وإحنا في آخر رمضان، وما ندري يكملوا الشهر وإلا يجيبوه ناقص.

يجيبوه ناقص على إيه.

وتتدخل نور: إحنا ولفنا على كده، ساعة يجيبوه ثلاثين ومرة تسعة وعشرين ومرة صومونا ثمانية وعشرين.

يا ستي هذا مو ذنبهم، هذا ذنب الناس اللي يروحوا ويشهدوا أنهم شافوا الهلال، وبعض الأحيان بلكن شافوا سحابة.

والله صحيح كلامك يا صديق أنا في حياتي مع أبوك يا نور كام مرة شفنا اختلاف على دخول شوال ويوم صومونا في وسط النهار.

وتتدخل «عزيزة» في الحديث وهي أخت نور، الحمد لله الآن ما فيه شيء اسمه تسعة وعشرين وثلاثين صاروا الآن يدققوا أكثر وفيه إشاعات إنه رايحين يستخدموا الحساب زي مصر والمغرب.

لا.. لا بره وبعيد نحن جماعة ما نؤمن إلا برؤية الهلال زي ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقولك يا نور لو سمحتي جيبي لي الجبة والعمامة أبغى أخرج على شان أصلي المغرب.

ويمسك بعصاه ويتوجه إلى الباب ويترك الأطفال معهم، وعندما يعود يجد أن الموضوع قد اتسع ونور تتحاور مع أمها التي تقنعها:

هؤلاء الأطفال يشبهوا صديق، ولا بد فيه سر واسألي يا بنتي عن الأمر.

ويأخذ صديق مكانه في انتظار أن يتناول طعام الإفطار بعد أن اكتفى بالتمرات وهو يتوجه إلى المسجد للصلاة، وتنظر إليه نور نظرات ثاقبة ثم تدعوه لتتحدث معه في الداخل:

يا صديق ترى أنا في نفسي شك من هذا الموضوع وكلام أمي صحيح أن الأولاد فيهم شبه منك.

يا شيخه أمك الله يحفظها دائما ترمي كلام كثير ولا تشغلي بالك بهذا الموضوع.

لا.. لا يا صديق أرجوك بالعشرة التي بيننا تقول لي الحقيقة كاملة.

إيش الحقيقة اللي تبغيني أقولها.

إنت عارف أنا أبغى إيه يا صديق، لكن أسألك بالله تقول لي الحقيقة.

ويرخي صديق رأسه ثم ينظر إليها ويقول: لو سمحتي أقفلي الباب حتى ما يسمعنا أحد.. شو في يا نور أهل مكة يقولوا «ربك وصاحبك ومرتك لا تكذب عليهم».

لا يا صديق المثل مو كده المثل يقول: ربك وصاحبك لا تكذب عليهم وأنت أضفت مرتك وكأنه فيه شيء في ذهنك تبغى تقوله وتقدم له، قول لي الحكاية بصدق.

يا نور ما أكذب عليك أنا إن شاء الله صادق في كل كلمة أقولها هادول الأولاد لهم قصة عجيبة وغريبة زي ما يقولوا الناس، قبل أربع سنوات كنا في المركاز عند العمدة، وبعدين دخلنا ولعبنا بلوت مع بعض أنا والزملاء، وجاني الشيخ جميل هليكة وروى لي قصة زميل من زملائنا تعرفيه «عبدالله شربة».

عبدالله شربة؟

أيوه.. عبدالله شربة صاحب محل الشربة اللي تعرفيه في الشبيكة، وروى لي قصته أنه في كرب عظيم لأن أخته تخاصمت مع زوجها وطلقها بالثلاثة، وحرمها وراحوا للشيخ وحاولوا الإصلاح بينهم هي رغبانه فيه وهو رغبان فيها، ولكن في ساعة شيطان أصبحت تحرم عليه.

يا خويا أنت قاعد تروي لي قصة ألف ليلة وليلة، وأنا أسألك عن هادول الأطفال وإيش قصتهم.

أصبري يا نور وخليني أكمل كلامي.

كمل يا خويا حتى نشوف الله يجيب العواقب سليمة.

لما كلمني العمدة والشيخ الهليكة وذكروا لي أنهم يبغوني أتوسط في الموضوع لأنهم يعرفون أني ما أجيب بزورة، وترجوني أن أتزوج هذه الحرمة لليلة وأطلقها وتعود لزوجها بعد العدة، فأكون جمعت شمل العيلة بدون ما يكلفني الأمر شيئا، وتحاورنا في الموضوع وتأخر النقاش إلى ساعة متأخرة في الليل وفي اليوم الثاني عدنا إلى نفس الموضوع، وأخيرا أقنعوني بأن أتزوج أخت عبدالله شربه «فوزية» لليلة واحدة بنية أني أحللها له.

لكن هذا حرام يا صديق الناس دول عقلهم كان فين؟

أصبري يا نور خليني أكمل لك الحكاية أنا بصراحة ضعفت يا نور وقلت خليني أجبر خاطرهم وخفت من زعلك، وفعلا بعد أسبوع طلقتها وانتهت الحكاية، ولكن قبل ما تنتهي عدتها كلمني العمدة وقال ترى فيه موضوع خاص بدي أقولك عليه يا صديق، البنت فوزية اللي تزوجت عليها حملت منك وما يمكن تتطلق إلا بعد ما توضع ولدها أو بنتها فأرجوك كمل الموضوع، ووقعت في موقف حرج وفي الوقت نفسه سبحان الله كيف أراد الله أن يرزقني بهذا الطفل في مثل هذه الظروف الحرجة وما كنت شايل هم أحد قد همك.

وبعدين يا خويا وبعدين؟

بعدين طلقت الحرمة وانتظرت ولادتها وسبحان الله قال الدكتور في الصحية، إنها حامل بثلاث توائم، وفعلا وضعت التوائم ظليت أربيهم وأراهم من بعيد لبعيد وتعاونوا معي العيال في سترة الموضوع حتى لا يوصل لك، ولكن في الأسبوع هذا صار شيء ما هو في الحسبان يا نور أم الأولاد هادول فوزية توفت وقعدت أفكر كيف أتصرف وأخيرا قررت أن أجيبهم على أننا نربيهم، وأن أقول لك الموضوع بالتدريج.

ثلاثة أولاد دفعة واحدة والله لو كنت صاروخ ما سويت هذا كله.

يا ستي صلي على النبي، ما يصير في الكون هذا إلا ما يقدره الله.

وأرخت رأسها في صمت وفجأة دخلوا الأولاد، أولاد أختها مع أولاد الجيران ويندفعون ليقبلوا الشيخ صديق ونور وخالة جميلة وضموا الأطفال الصغار معهم وأخذوا يرقصون ويرددون:

جابوا العيد.. جابوا العيد يا عم صديق.. يا خالة نور، يا ستي جابوا العيد.

ضربت مدافع العيد ونادى المنادي ووقفت نور ولم تجب على أحد ولكن أخذت تنظر إلى الأولاد وهي خارجة من الغرفة وتقول:

الحمد لله.. ومبروك على العيد يا أولاد لكن عمكم صديق جاب العيد قبل العيد.

يعني جابوه يا عم صديق وأنت عارف وما تقول لنا.

وترد نور: عمكم صديق جاب العيد.. جاب العيد.

*1979

* كاتب ووزير سابق «1940 - 2010»