منذ أن بدأ فيروس كورونا بالانتشار بداية هذا العام 2020 وهو مع الأزمة الصحية التي سببها -ومازال- يحطم كثيرا من النظريات والمبادئ والأيديولوجيات التي عاشت مع البشر منذ زمن بعيد مهما كان نوع هذه الأدلجة ونطاقها. قيم الرأسمالية الغربية تزعزعت مع تصريحات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في بدء الأزمة وصلاة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وإنزال علم الاتحاد الأوروبي من عدة جهات في أوروبا، وقيم الأخلاق والإنسانية تهاوت مع أحداث الاستيلاء على شحنات لمعدات وتجهيزات طبية في جهات مختلفة من القارة العجوز. فضلا عن محاولات باءت بالفشل لمنح هذا الوباء قداسة وقبولا وقيما دينية أو حضارية في جهات أخرى من العالم كإيران التي انتشر فيها من مدينة قم، التي يعرفها زوارها بأنها مأوى شيعة آل محمد وجنتهم المقدسة، التي صدرت الوباء والموت لعدة دول مجاورة، ودفعت رجل الدين الإيراني علي رضا بناهيان للتصريح بأن كورونا مقدمة لظهور الإمام المهدي المنتظر. كورونا الذي غير ببساطة قواعد فقهية راسخة دون اجتهاد من أي رجال دين في كل المذاهب، وسيّر الحياة بنمط يتفق وطريقته في الانتشار والسيطرة، وعزز من نظريات المؤامرة ودعوات الإيمان بـ «كارما» الطبيعة مازال لغزا لدى البعض، ومغامرة مثيرة لدى آخرين، وخشبة مسرح يشاهد البعض الآخر عليها عبثية الحياة والموت.

كانت نهاية العالم تأخذ في أذهاننا عدة قصص، نأخذ منها ما يناسب زاوية التفكير التي نقف أمامها. في أسوأ الأحوال لم تكن تتجاوز أن يتسبب معتوه ما في شرق العالم في انفجار نووي يبيد فيه البشرية، أو أن يسقط من السماء نيزك من الجحيم يبتلع الأرض وتنبت من بعده فيها أقوام أخرى، أو أن تثور الطبيعة غاضبة على البشر فتهلكهم برجفة واحدة ماؤها أو زلازلها ونارها. على الرغم من أن نهاية العالم التي كنا نستمع لها على مقاعد الدراسة تبدو أكثر لطفا من هذه التصورات، فهي تبدأ بمقدمات قد يتدارك الإنسان فيها نفسه بالتوبة عما لا يعلم، والتبرؤ من ذنوب لم يرتكبها أو التعلق بمخلص ينزل من السماء أو يبعث من الأرض.

انتشر كورونا وجعل من كل تلك الخيالات أمامنا أضحوكة ونحن -أكثر من سبعة مليارات شخص حول العالم- نختبئ منه في منازلنا، ونراقبه من خلف نوافذنا وننتظره ونحن لا نعرف له شكلا ولا طعما ولا صفة إلا أنه شيء ضئيل جدا وخفي جدا استطاع أن يقف وحده متحديا العالم في قيمهم وعاداتهم وأولوياتهم في الحياة.

فرحنا كثيرا بمصطلح «العزلة»، أردناها حقا من قبل لنمنح أنفسنا مساحة من راحة أو تأمل، أو لنوظفها في مذكراتنا ككتاب كلاسيكيين. ولأجل التعامل معها اندفعنا في herd behavior «سلوك القطيع» بوعي أو دون وعي منا: حضرنا العشرات من الفعاليات الثقافية والتدريبية والترفيهية عبر وسائط تقنية، صنعنا الخبز في منازلنا، تباهينا بقصات الشعر التي ابتكرناها، حنت النساء كفوفها وفتّل الرجال شواربهم تقليدا للقديم داخلهم، اكتشفنا أركانا منسية في منازلنا ومن يسكنها، وعبثا حاولنا أن نبعث الحياة فيها، تبادلنا توصيات الكتب والأفلام والمسلسلات وقوائم طويلة من الوصايا والاقتراحات لحياة إيجابية سعيدة، نشرنا للعالم صورا لصلواتنا واحتفالاتنا تثبت لهم كم نحن أسر مثالية، سعيدة ومتماسكة ونستطيع أن نتعايش مع أكثر العلاقات سمية لنبدو لهم لائقين كأي أُسر طبّقت التباعد الاجتماعي وفرضت الحظر طوعا على داخل أرواحها الطليقة قبل الخارج. مارسنا خلال الأشهر الماضية ما يمكن أن نقوم به ليخلصنا من فكرة الخلاص ومواجهة الموت التي جاءت على شكل فيروس اسمه كورونا، جعلنا من عادات مستحدثة مخلّصا نثبت من خلالها أننا على قيد الحياة وإن أخذت شكل عزلة تكاد تكون للبعض موتٌ آخر.

كل هذا كان تنازلا قسريا عن الحرية التي خلق عليها الإنسان، تنازلا للبقاء على قيد الحياة. الحرية التي قد تظهر في أبسط صورها أن تغادر المكان الذي أنت فيه متى أردت دون سؤال أو مبرر، تسير في الشارع دون قيد، وتُمسك يد من تحب حين تلتقيه مصافحا. عدة شهور مضت ونحن مستلبو الحرية التي اعتدنا عليها لأجل أن نواجه هذا الوباء، استلاب طوعي تماهينا معه بكل تلك الحالات المثيرة للتعايش وتغيير أنماط العيش والتفكير والتعاطي مع الحياة. وسنعود لها قريبا بذات التدرج الذي توقفنا به. ولكن العالم كله يكاد يجزم أن الحياة ما بعد كورونا لن تكون كما كانت قبلها، سواء في أولوياتنا الخاصة التي هددها مرض خفي أو في حياتنا العامة التي سيرها التعامل مع هذا المرض. سنعود لحرياتنا ولكنها ستكون رهينة للمسؤولية الذاتية تجاه الحرية الشخصية أو حريات الآخرين، لأن أي كسر لقواعد اللعبة التي فرضتها كورونا من تباعد اجتماعي أو تعامل مع الأشخاص والأسطح سيفرض علينا عزلة أخرى ربما تكون أشد وطأة، نحرم فيها من مشاهدة الفصل الأخير من مسرحية العبث للموت والحياة على هذه الأرض.