(الإسلام صالح لكل زمان ومكان) عبارة تختلف العقول في فهمها، فالبعض يفهمها بالشكل التالي: (ابن تيمية صالح لكل زمان ومكان)، والبعض الآخر يفهمها باعتبار (الإمام الجويني صالح لكل زمان ومكان)، وعند محاولة تفكيك العبارة نكتشف أن (الدين صالح لكل زمان ومكان)، ولكن العقل الأصولي ثابت بطبيعته أمام المتغيرين (الزمان والمكان)، فالعقل الأصولي يعتبر أن الدين ثابت، بينما الدين (أي دين) منطلقاته (ذاتية) وليست موضوعية، ودون هذه المنطلقات الذاتية المتعالية على كل ما هو (موضوعي) في حياتنا، لن يكون هناك دين.

هذه الذاتية التي ينطلق منها الدين كإيمان ينطلق من الذات، يعطي الدين مرونته الطبيعية التي تنطلق من ذوات أصحابها، ولهذا فأغلب الحوارات والجدل الفقهي (الكلباني مثلاً ومعارضوه من طلبة العلم في مسألة الغناء) لا ينطلقون من استظهار الأدلة بكل موضوعية، بقدر الانطلاق من استظهار عاداتهم وأعرافهم في النظر إلى الأدلة التي تتقاطع وهذه العادة والمألوف، ولهذا فمالكية المغرب العربي في حكم الغناء لن يكونوا كبعض حنابلة نجد في نفس الحكم الشرعي للغناء، بل إن المدرسة الفقهية الحنبلية تكاد تختلف في بعض خياراتها ما بين فقيه حنبلي ولد ونشأ في الحجاز، وفقيه حنبلي ولد ونشأ في بادية نجد.

(الإسلام صالح لكل زمان ومكان) بقدر الاستعداد الذاتي النابع من روح المؤمن، وليس بقدر الاستعداد الموضوعي النابع من الواقع، فالأديان بشكلها النقي هي (الضمير العام) الذي يتحرك وفق معطيات العصر، ولهذا فكثير من الأطروحات الحديثة تشير إلى ضرورة التفسير (الأخلاقي) للدين، بعيدا عن التفسيرات المتعالية على الفهم (الموضوعي) والمتكئة على رهانات الإيمان (الذاتي).

عندما يأتي من يقول إن النص حاكم على العقل، فهو يشير إلى (العقل الجمعي) للمجتمع، لكنه يضمر عقلاً خاصاً هو (عقل الفقيه) الذي له أن يحكم على النص قبولاً ورداً من حيث السند، عموماً أو خصوصاً من حيث المتن، تأويلاً أو تفسيراً من حيث النظر، أي أنه بشكل آخر يطرح نوعين من العقول، (العقل الجمعي) للناس، وأن النص يعلو على عقولهم أجمعين، (العقل الفقهي) وهنا يخضع النص لحكم هذا العقل، جرحاً وتعديلاً قبولاً ورداً، تعميماً وتخصيصاً... إلخ من محاكمات عقلية بناها الفقهاء الأوائل على منطلقات أصول الفقه التي تتكئ على (المقدمة المنطقية)، أو بقول أوضح (المنطق الأرسطي) الذي تجاوزته الحضارة الحديثة.

(النص حاكم على العقل) إذا قصد بها عقل الفقيه، عانى الفقه الإسلامي من الجمود، ليتفاجأ المجتمع بحرج شرعي في كل مستجدات حياته، وأكثر من يعمم هذا الفهم على المجتمع وعلى نفسه (فقهاء مدرسة أهل الحديث)، ولهذا يقعون في حرج مع أنفسهم ومجتمعاتهم في كل تحولات اجتماعية واقتصادية يمر بها الناس من حولهم.

(الإسلام صالح لكل زمان ومكان) وفق أدوات النظر العقلي لكل زمان ومكان، وما عدا ذلك جمودا فقهيا، وتزمتا دينيا يغرق في شبر ماء من الحضارة الحديثة، وعبارة (النص حاكم على العقل) يقصد بها (العقل الجمعي) للناس، لأن الفقيه يقول هذه العبارة لعموم الناس، لكنه لا يخضع ويستسلم بالبراءة نفسها للنص، بل يخضع النص لمحاكماته الأصولية التي تلقاها لتحقيق المناط وفق معايير منطقية تستمد جذورها كما سبق من (المنطق الأرسطي)، ولهذا من حق المجددين أن يسترشدوا بغير المنطق الأرسطي ليكون جذراً حديثاً لعلم أصول الفقه، الذي تتكئ عليه مخرجات الفقه في الاستدلال والنظر.

(النص حاكم على العقل) عبارة إذا أخذت على إطلاقها بكل براءة واستسلم لها المجتمع والدولة، فهي إرهاص حقيقي لمشروع (ولاية الفقيه)، وما مشروع الإخوان المسلمين في طبيعته البنيوية إلا إرهاص لولاية الفقيه، فهل نلوم خامنئي وحرصه على طبع كتب كبار رموز الإخوان المسلمين ونشر ثقافتها لاستحلاب الخلاص الديني والدنيوي وفق ثنائية تجمعها (ولاية الفقيه) تحت شعار (الإسلام هو الحل).

(الإسلام هو الحل) كلمة عامة تضع الإسلام في اختبار اقتصادي واجتماعي وسياسي، والعبارة الصحيحة هي (المسلمون هم الحل) لمجتمعاتهم واقتصادهم وسياستهم، ولهم كما لغيرهم من البشر حرية إعمال العقل فيما ينفعهم، ويبقى الإسلام (دينا) يعيشه الغني والفقير، الذكي والغبي، الأبيض والأسود، دون إدخاله في صراعات طبقية من أي نوع، فكل المسلمين يرجون ما عند الله بعد الموت، أما في الحياة فهم يرجون ما تكسبه أيديهم وفق نواميس الأرض التي وضعها الله لتعطي الياباني الوثني من خيراتها لجِدّه واجتهاده، ما لا تعطيه لعابد زاهد في بيداء الصومال.

كل عبارة رنانة يجب إنزالها لميدان الواقع، فإن صمدت للممارسة والتجريب فهي عبارة تستحق النظر، وما عدا ذلك

فبلاغة شعرية تعطي السلوى إلى حين ظهور سلطان (العلم)، كسلوى الراقي من لدغة الثعبان إلى حين وصول الإسعاف وأخذ الترياق الطبي، ويكفي أن تاريخ الفتاوى أحيانا وصل إلى تحريم (التطعيم) وعلى العقلاء تحكيم عقولهم في هذا، مهما أورد المفتي من أدلة يستشهد بها ضد تحريم لقاح الكوليرا وشلل الأطفال.