‏«النوستولوجيا» «‏Nostalgia‏» مصطلح أجنبي يعني الحنين ‏للماضي بمواقفه وشخصياته، وهذه الظاهرة قد تكون طبيعية بالنسبة ‏لفقراء فقدوا ثرواتهم، أو لأذلاء فقدوا عزهم ومجدهم القديم، أو ‏لمرضى تدهورت صحتهم بمرور الأيام وفعل الزمن، لكنها تبدو ‏غريبة بعض الشيء لأثرياء يتمنون الرجوع للماضي رغم ما عانوا ‏خلاله من ضيق حال، أو لأصحاب نفوذ رغم بساطة معيشتهم فيه.‏

وعندما نتأمل ما يدور في أذهاننا من أفكار، ونتمعن في مناقشاتنا مع ‏وسطنا المحيط، ونراقب سلوك الآخرين، سواء كانوا أقارب أو ‏أصدقاء أو زملاء أو حتى معارف، نلاحظ أن الحنين للماضي أصبح ‏ظاهرة في حياة الأثرياء قبل الفقراء، وفي حياة أصحاب النفوذ قبل ‏البسطاء، ويراود المثقفين والمتعلمين قبل أصحاب المستويات الثقافية ‏والتعليمية الأدنى.‏

وطغى طابع الحنين للماضي على مضامين وسائل الاتصال الحديثة ‏قبل التقليدية منها، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً نرى ‏الانتشار الكبير لصور الراحلين عن دنيانا، ولمواقف الماضي ‏وذكرياته وللأعمال الفنية والأدبية القديمة.

وعلى صعيد وسائل ‏الإعلام التقليدية، ظهرت قنوات تلفزيونية متخصصة في عرض ‏أعمال الماضي مثل ذكريات وروتانا زمان وماسبيرو زمان، وعملت ‏المحطات الإذاعية والتلفزيونية المختلفة على إعادة عرض برامج ‏الماضي وأعماله الدرامية، نظرا لازدياد عدد مستمعيها ومشاهديها ‏بشكل ملحوظ ورغبتهم في التعرض لمزيد منها، الأمر الذي دفع ‏المعلنين لعرض صور من الماضي في إعلاناتهم لجذب جمهورهم ‏المستهدف.‏

وصار قطاع كبير منا يتمنى عودة الماضي بشخصياته ومواقفه ‏وبإيجابياته وسلبياته، وهنا يأتي السؤال الذي يطرح نفسه: ما السبب ‏وراء هذا الحنين الجارف للماضي؟ وقد تكمن الإجابة في تغير ‏سلوكيات الناس للأسوأ واختفاء الطيبة والطيبين من حياتنا، أو لسيادة ‏المادية المجحفة وتراجع البعد الإنساني، أو بسبب موت الضمير ‏والبعد عن الله وشرائعه، أو للتبعية السياسية والاقتصادية والعولمة ‏الثقافية التي قضت على الأعراف والتقاليد والقيم، وربما لكل هذه ‏الأسباب مجتمعة وغيرها مما يطول ذكره، ويصعب حصره. ‏

وقد تشير هذه الظاهرة إلى هرِم الدنيا واقتراب نهايتها، خاصة مع ‏ظهور كثير من علامات النهاية التي أشارت إليها آيات قرآنية كثيرة ‏وأحاديث شريفة متعددة، فأصبح الطفل أو الشاب يحمل نفسية الشيخ ‏الكبير لما يراه من أهوال وصراعات وغلاء ومسؤوليات وغيرها من ‏مظاهر علو المادية على الروح، فالغالبية العظمى من الناس، إن لم ‏يكن جميعهم، يحاولون تحسين وضعهم المادي دون الاهتمام بالجانب ‏الروحي، وهذا يذكرنا بقوله تعالى «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي ‏غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ» (1) سورة الأنبياء، وقوله تعالى «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر»ُ ‏‏(1) سورة التكاثر، الأمر الذي دفع البعض من أنصار الجانب ‏الروحي والفكري في عالمنا إلى الانزواء والبعد عن المدنية الحديثة ‏التي حوّلت الفرد من إنسان إلى آلة للتكاثر والربح المادي فقط. ‏ ولأن الرجوع إلى الماضي أمر مستحيل، بدأ الناس يتحدثون عن ‏نهاية الحياة من النواحي الدينية والعلمية والفلكية وحتى التنجيمية، بل ‏وصار البعض يستعجل هذه النهاية، فارتفعت وتيرة الانتحار بشكل ‏ملحوظ، ففي عام 2019 كان هناك منتحر كل 40 ثانية في العالم. ‏

وأصبحنا نرى سلوكيات تقشعر لها الأبدان، من تشتت الأسر، وقطيعة ‏الرحم، وعقوق الوالدين وعدم الاعتناء بهما، والفرار من رعاية ‏المسنين، وخيانة الأصدقاء والشائعات والافتراءات، وغيرها من ‏مظاهر البعد عن الله والتي نراها في قوله تعالى «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ‏نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (19) سورة الحشر، ‏وبات حلم المؤمن كما وصفه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى ‏آله وصحبه وسلم- في الحديث الشريف الذي رواه أبوسعيد الخدري، ‏رضي الله عنه: «يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف ‏الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن. وفي رواية: يأتي على ‏الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم، يتبع بها شعف الجبال ‏ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن». (رواه البخاري).‏

وإذا كنا بالفعل في عصر الغروب، وكنا نشعر بهذه الحالة من عدم ‏الاستمتاع بالحاضر، والخوف والقلق من المستقبل، ومن ثم الحنين ‏إلى الماضي، فعلينا أن نعيد حساباتنا مع أنفسنا وحساباتنا مع الله، ‏ونتزود بالزاد الروحي قبل المادي، ونفر إلى الله كما أمرنا سبحانه ‏وتعالى في سورة الذاريات «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ ‏مُّبِينٌ»(50)، وهذا هو العلاج الناجع من العليم الخالق لنتخلص من ‏مآسي هذا الغروب الأليم.‏