وعندما نتأمل ما يدور في أذهاننا من أفكار، ونتمعن في مناقشاتنا مع وسطنا المحيط، ونراقب سلوك الآخرين، سواء كانوا أقارب أو أصدقاء أو زملاء أو حتى معارف، نلاحظ أن الحنين للماضي أصبح ظاهرة في حياة الأثرياء قبل الفقراء، وفي حياة أصحاب النفوذ قبل البسطاء، ويراود المثقفين والمتعلمين قبل أصحاب المستويات الثقافية والتعليمية الأدنى.
وطغى طابع الحنين للماضي على مضامين وسائل الاتصال الحديثة قبل التقليدية منها، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً نرى الانتشار الكبير لصور الراحلين عن دنيانا، ولمواقف الماضي وذكرياته وللأعمال الفنية والأدبية القديمة.
وعلى صعيد وسائل الإعلام التقليدية، ظهرت قنوات تلفزيونية متخصصة في عرض أعمال الماضي مثل ذكريات وروتانا زمان وماسبيرو زمان، وعملت المحطات الإذاعية والتلفزيونية المختلفة على إعادة عرض برامج الماضي وأعماله الدرامية، نظرا لازدياد عدد مستمعيها ومشاهديها بشكل ملحوظ ورغبتهم في التعرض لمزيد منها، الأمر الذي دفع المعلنين لعرض صور من الماضي في إعلاناتهم لجذب جمهورهم المستهدف.
وصار قطاع كبير منا يتمنى عودة الماضي بشخصياته ومواقفه وبإيجابياته وسلبياته، وهنا يأتي السؤال الذي يطرح نفسه: ما السبب وراء هذا الحنين الجارف للماضي؟ وقد تكمن الإجابة في تغير سلوكيات الناس للأسوأ واختفاء الطيبة والطيبين من حياتنا، أو لسيادة المادية المجحفة وتراجع البعد الإنساني، أو بسبب موت الضمير والبعد عن الله وشرائعه، أو للتبعية السياسية والاقتصادية والعولمة الثقافية التي قضت على الأعراف والتقاليد والقيم، وربما لكل هذه الأسباب مجتمعة وغيرها مما يطول ذكره، ويصعب حصره.
وقد تشير هذه الظاهرة إلى هرِم الدنيا واقتراب نهايتها، خاصة مع ظهور كثير من علامات النهاية التي أشارت إليها آيات قرآنية كثيرة وأحاديث شريفة متعددة، فأصبح الطفل أو الشاب يحمل نفسية الشيخ الكبير لما يراه من أهوال وصراعات وغلاء ومسؤوليات وغيرها من مظاهر علو المادية على الروح، فالغالبية العظمى من الناس، إن لم يكن جميعهم، يحاولون تحسين وضعهم المادي دون الاهتمام بالجانب الروحي، وهذا يذكرنا بقوله تعالى «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ» (1) سورة الأنبياء، وقوله تعالى «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر»ُ (1) سورة التكاثر، الأمر الذي دفع البعض من أنصار الجانب الروحي والفكري في عالمنا إلى الانزواء والبعد عن المدنية الحديثة التي حوّلت الفرد من إنسان إلى آلة للتكاثر والربح المادي فقط. ولأن الرجوع إلى الماضي أمر مستحيل، بدأ الناس يتحدثون عن نهاية الحياة من النواحي الدينية والعلمية والفلكية وحتى التنجيمية، بل وصار البعض يستعجل هذه النهاية، فارتفعت وتيرة الانتحار بشكل ملحوظ، ففي عام 2019 كان هناك منتحر كل 40 ثانية في العالم.
وأصبحنا نرى سلوكيات تقشعر لها الأبدان، من تشتت الأسر، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين وعدم الاعتناء بهما، والفرار من رعاية المسنين، وخيانة الأصدقاء والشائعات والافتراءات، وغيرها من مظاهر البعد عن الله والتي نراها في قوله تعالى «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (19) سورة الحشر، وبات حلم المؤمن كما وصفه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في الحديث الشريف الذي رواه أبوسعيد الخدري، رضي الله عنه: «يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن. وفي رواية: يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن». (رواه البخاري).
وإذا كنا بالفعل في عصر الغروب، وكنا نشعر بهذه الحالة من عدم الاستمتاع بالحاضر، والخوف والقلق من المستقبل، ومن ثم الحنين إلى الماضي، فعلينا أن نعيد حساباتنا مع أنفسنا وحساباتنا مع الله، ونتزود بالزاد الروحي قبل المادي، ونفر إلى الله كما أمرنا سبحانه وتعالى في سورة الذاريات «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ»(50)، وهذا هو العلاج الناجع من العليم الخالق لنتخلص من مآسي هذا الغروب الأليم.