تنبثق فكرة التعليم الأهلي بمستوياته المختلفة، من مفهوم تنموي عالمي يستهدف توسيع قاعدة المؤسسات التعليمية، لأهميتها في بناء الموارد البشرية التي يحتاجها المجتمع في جميع مؤسساته، إذ يُسهم التعليم الخاص في تقديم خيارات مختلفة للمتعلمين من الراغبين والقادرين على تحمل تكاليفه، مقابل ما يقدمه من مميزات تشمل البيئة الدراسية والكوادر البشرية والمحتوى المعرفي والمهاري المتميز في مضمونه وجودته وأدائه. وحيث إن التعليم العام بجميع مراحله إلى الثانوية العامة يُعد في الدول المتقدمة إلزاميا للجميع، فإن التعليم الرسمي عندهم يضاهي في جودته التعليم الخاص، إلا أن التعليم ما بعد الثانوي، سواء العالي أو دبلومات الكليات المهنية وغيرها، فإنها تنضوي تحت مظلة القطاع الخاص، كمجال تجاري استثماري يسهم في خدمة المجتمع وتحقيق أهدافه التنموية.

تشجيع الاستثمار في القطاع الخاص وتحفيزه مطلوب في جميع القطاعات والمشروعات التنموية، ولكن نجاح مردوده مرهون بأنظمة وتشريعات ومعايير مؤسسية تضبط عمله وأهدافه الاستثمارية، ويُعد الاستثمار في المشروعات المتصلة بالتنمية البشرية، وما يتعلق بها من برامج ومؤسسات تعليمية، من أهم المشروعات التي تحتاج إلى حزمة من القوانين والضوابط التي تُقيد مخرجاتها، في إطار تنفيذ معاييرها الدقيقة ومتابعة تحقيق مؤشراتها.

استحوذ التعليم على قسط وافر من الإنفاق على ميزانياته ومشاريعه التوسعية منذ عقود، وشمل التعليم الداخلي بجميع مراحله والابتعاث، علاوة على الدعم اللامحدود لمشروعات التعليم الخاص، في إطار سياسات تهدف إلى خدمة تطلعات التنمية البشرية، وتحفيز التنافس في جودة مضمونها، لتصب مخرجاتها في مصلحة المؤسسات الوطنية، وتسهم في سد العجز في نسبة مشاركة المواطن في سوق العمل.

يشير كثير من المؤشرات المتداولة إعلاميا إلى أن كثيرا -وليس الجميع- من مخرجات التعليم الأهلي أصبحت تحديات تنموية تضاف إلى تحديات التعليم، وذلك بدلا من أن تكون داعمة ومسددة للثغرات الموجودة في تعليمنا، والذي يمكن تلخيصه في افتقاده جودة المخرجات، نتيجة لضعف المحتوى العلمي المعرفي والمهاري والأكاديمي، ويتضح ذلك عمليا في بعض مخرجات الكليات الصحية الخاصة، والتي يتعثر كثير من خريجيها في اجتياز اختبارات الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وذلك يشمل مختلف المسارات من الطب البشري والأسنان أو الصيدلة والتمريض والعلوم الصحية التطبيقية.

ولعله من سوء حظ مخرجات تلك الكليات الصحية أنه لا يتم تمكينها مهنيا إلا بعد اجتياز تلك الاختبارات بداية، ثم تحصيل القبول من المستشفيات المعتمدة أو الجهات الأخرى للتدريب والتخصص تحت مظلة وزارة الصحة وإشراف الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، فيكون ذلك التقييم المعرفي بالاختبار هو المحك الذي يفرز مستوى المخرجات، بينما لا تتطلب معظم مخرجات التخصصات الأخرى مثل تلك الاختبارات، فتكون فرصتها أكبر نسبياً في تحصيل فرص عمل والانضمام لكوادرنا الوطنية العاملة.

وكما تشير الوقائع والأحداث إلى أنه عندما يتم دعم القطاع الخاص للاستثمار في التعليم، فإن متطلبات تنفيذه محدودة في الحصول على تصريح الموافقة من التعليم لإنشاء منشأة تعليمية ورخصة تجارية من وزارة التجارة، علاوة على التعهد بالالتزام ببعض اللوائح النظرية المتصلة بمبادئ وأهداف العملية التعليمية للمنشأة، وذلك إن وجد! بينما هناك غياب تام عن المتابعة التفصيلية لجميع محتوى العملية التعليمية ممارساتها الأكاديمية والتربوية والفنية والإدارية المطلوبة في التخصصات المختلفة لتلك المنشآت، كما أن هناك غيابا عن رصد مستوى أدائها العلمي والمهني، والذي يحتاج لإخضاعها لأساليب وأدوات تقويمية لطلابها/‏ت في جميع مراحل دراستهم، بما يكفل مخرجات مناظرة ومنافسة للمخرجات الحكومية، وذلك ملموس في بعض جامعاتنا الخاصة التي تُعد نموذجاً يحتذى به، بعد أن أثبتت جودة مخرجاتها، تمكنها من المنافسة المتميزة في سوق العمل.

استحوذت الجامعات الخاصة والكليات الأهلية الصحية وغيرها على مدى سنوات، على مبالغ طائلة كرسوم وتكاليف دراسة وغيره من وسائل الدعم الرسمي، لاحتواء بعض مخرجات الثانوية الذين لم يجدوا فرصتهم في الجامعات الحكومية، وللدفع بعجلة التنمية البشرية، تحت مظلة جامعاتنا كخيار مطروح مع استمرار الابتعاث الخارجي.

المحصلة التي أفرزها كثير من الكليات الأهلية ضعف المخرجات، نتيجة لغياب المتابعة المسؤولة من وزارة التعليم المعنية بذلك، والتي انتهى دورها عند منح التراخيص واللوائح النظرية الأولية، دون إشراف ومتابعة مستمرة لجميع تفاصيل العملية التعليمية بما تضمنه من محتوى ومقررات وتقييم وتأهيل للكوادر البشرية الأكاديمية والإدارية، وما تحتاجه من متطلبات وفق معايير ومؤشرات مدروسة، وعليه أصبح الاستثمار في التعليم تجاريا بالدرجة الأولى، خاصة بعد انقطاع دعم الابتعاث الداخلي وانخفاض عدد الملتحقين بتلك الكليات أو الجامعات لارتفاع تكاليفها.

التساؤل المطروح، ما مصير تلك المخرجات التي تبحث عن مكانها وفرصتها في سوق العمل؟! من يعوضها عن سنوات أمضتها في تعليم ضعيف؟! وكيف يمكن إعادة تأهيلها من جديد أو على الأقل دعمها معرفيا بما يمكن من الرفع من مستواها التعليمي والمهاري؟! وإلى متى يستمر هذا الغياب عن المسؤولية في متابعة التعليم الأهلي رغم استمرار التوسع فيه؟! وكيف يمكن تحقيق تعاون بين الجهات المعنية بالتوظيف (إدارة الموارد البشرية) وبين القطاع الخاص والعام لاحتواء تلك المخرجات بالتدريب والتوظيف؟!