استمتعت بما سطّرته أنامل أستاذنا الدكتور سعد الصويان في مقالته الماضية بعنوان «وطن الأحلام»، إذ تحدث عن استيقاظ التفاؤل داخله بعد غفوة طويلة، وأصبحت بداية أيامه مليئة بالأمل وترقب الأخبار المفرحة، ليكبر بعدها همّه الشخصي، ليتحول إلى هَمّ وطن. ثم سرد بعض التحولات التي مرّ بها من أيام السواني والحياة البدائية إلى يومنا هذا.

تخللت المقال محطات ومنعطفات مهمة في خارطة حياته وخارطة الوطن، لعلها تبلورت في عقبات فكرية واجتماعية وحتى سياسية، لامست حدود سمعتنا وصورتنا خارجيا. أعقبها الحديث عن تجربته الأكاديمية التي وصفها بأنها أصعب أيام حياته وأحلكها، بسبب الصراعات الأيديولوجية الفاقعة، التي حدت من مساحة تحركه تدريسيّا، بل حصرتها في نطاق وموضوع واحد.

حينما نبحر في تفاصيل ذلك الجيل المكافح بمعاني الكفاح كافة، منذ ولادته التي حرم كثير منهم معرفة موعدها الدقيق، ليوصفوا بعد ذلك بجيل «1/ 7»، نجد أنهم صافحوا الحياة بمرارة، ولم تكن نعومة أظفارهم تتشكل حتى بدؤوا في مجابهة حياة شاقة معيشيّا وفكريّا. ذلك الجيل الذي ركض خلف رزقه بأصعب الطرق والسبل، وذاق مرارة دروب الحياة الوعرة، جاهد في سبيل تحقيق ذاته، واجه كثيرا من التقلبات الفكرية والسيكولوجية عبر أجيال متعددة، أشعرته بحال من عدم التصديق أو القدرة على التعايش، بسبب التباين النوعي بين الجيلين.

بل إن كثيرا من المُسلّمات التي كان يعتقدها فاجأته السنون المتعاقبة بأنها لا تعدو كونها آراء ليست أكثر.

ذلك الجيل الذي يحمل في رصيده خبرات سنوات الكفاح والمعاناة، وتحولات الأجيال بكل المكونات، لا يزال غير قادر على الانصهار بشكل كامل مع حالة التباين المطلق بين ما عايشه وما يعيشه، الأمر الذي دفع كثيرا منهم إلى تكريس صورة نمطية، وهي أن الجيل الحالي بالمطلق يتسم بالسلبية، وعدم الطموح وسهولة الحياة مقارنة بما عاشوه. بيد أن هذه النظرة غير دقيقة وليست منصفة، فهناك عوامل عدة مكّنت الجيل الحالي من فتح آفاق أبعد في التفكير، والقدرة على التعايش والتعاطي مع الآخر، بل وأسهمت تنافسية العصر الحالي في حرص أبناء هذا الجيل على عدم الركون عند حد معين.

ديناميكية الحياة المتسارعة والتطور التقني والمعرفي الهائل والمناخ المحيط، والتفكير الجمعي الموجود، جميعها عوامل أوجدت هذا الاختلاف الجوهري والعميق بين الجيلين. فمحدودية دائرة الحياة الواقعية لدى الجيل السابق، قابلها فضاء افتراضي متسع للجيل الحالي، أسهم في تشكيل ثقافته بل وأديباته، إذ إن مضمون الرسائل التربوية والاجتماعية اختلف بشكل كبير بين الجيلين، فلم يعد المنزل والمدرسة والأقارب، وحدهم قادرون على صياغة ذلك المفهوم التربوي لهذا الجيل، فهو في عالمه الخاص، وفي غرفته يتواصل ويتسلى افتراضيا.

هنا تكمن عظمة جيلكم يا دكتور سعد!، كيف أنكم لا تردون طلبا لطفلتكم أو طفلكم لحضور حفلة فرقة كورية، في الوقت الذي نشأ جيلكم على ترسّبات مثل تحريم الدراجة، وربما لبس الغترة. كيف لا تمنع ابنك المراهق من مشاهدة النتفليكس، وحُرّم على جيلكم التلفاز والسينما؟.

أما فيما يخص التعليم الجامعي يا دكتور سعد، فالصعوبات ما زالت موجودة، وإن اختلفت نوعيتها عن صعوبات جيلكم. رغم وجود مجموعة تكبر يوما بعد يوم في الجيل الحالي من الطلاب ممتعة في النقاش، ذكيّة في الطرح، لمّاحة في التقاط الأفكار والفهم. إلا أن هناك مجموعة غابت عنها المسؤولية، وتَملّكها البرود واللامبالاة. بل لا يتكبد عناء أدنى مجهود للتعلم والتفكير، وهنا أنا من سأردف جملتي بعبارة «والعياذ بالله»، ثم مع انفتاح عالم الاتصالات وثورة المعلومات وتطبيقات الإعلام الرقمي على مصراعيه، فقد كثير من شباب هذا الجيل بعض فنون التواصل والذكاء الاجتماعي. فطبيعي جدا أن تتلقى رسالة واتساب على هاتفك الساعة الرابعة فجرا من أحد الطلاب يسأل: «دكتور فيه محاضرة بكره؟»، فإذا كانت أزمة جيلكم فكرية، أزمة جيلنا اتصالية بامتياز.

لكل من الجيلين معطيات وظروف مصاحبة، وحتى التحديات، وإن اختلفت في طرقها، المهم هنا سرعة التكييف والتأقلم، وفهم متطلبات كل جيل، وهذا ما ميز جيلكم، ويجب أن يميز العنصرُ نفسه الأجيالَ المتلاحقة لتستمر العجلة.

إذا كانت الندرة هي ما صعّبت حياة الجيل السابق، فالتنافسية هي من عقدت الجيل الحالي، لذا فإن إيجابيات الجيلين ثابتة باختلاف أشكالها، وكذلك الحال للسلبيات، غير أن السلبية الأكبر بينهما أنهم ارتضوا في توسيع الفجوة بينهم وعدم التعايش معا. إنهم جيل خسروا وضحوا بالكثير، تبقّى لهم التفاؤل والتعايش مع القادم.