كذلك سنتان في سؤال وحاجة ورجاء في الفوز... ثم يجيء هذا المساء باليقظة والموت: بشوق النفس وقد خان وخوى، والطريق وقد طمست عمى، وقد امتنع الحلم والاطمئنان نأى. ويحدث نفسه: «ومع ذلك أفليست الطمأنينة والحلم واضحة السر بينة الطريق؟ أليس أنها...؟».
«بلى. إنها نوم من السماء وروح. وبراءة من الحركة والجهد والعناء. وحلول الدعة والهدوء والسكون. فالإسلام بها إسلام وإذعان. والحي بها جسد وروح واعتدال. لكن -لا هي طمأنينة «أبولون» الإغريق تمسك يده عنان الأفراس الجامحة ولا ترتعش ولا تألم، وتغطي طمأنينته على باطن التقطع ودفين الداء ولا يحتار ولا يوجع، بل سكون الرخام. طمأنينة الرخام يقوم ويقاوم ويثبت ولا خلجة في القوام ولا اختلاح. كذا ألحان موسيقى الشرق، وكذا خطوط نقشه، راجعة عودا على بدء ولا حركة ولا تحول ولا انتقال،- ولا هي الجبن ولا العجز ولا التسليم للقدر ولا القول بالجبر، بل القرار الأعظم قرار واجب الوجود. قرار الكون وادعا إلى سنينه في اكتفاء ورضا. ولتكن الدنيا خضما من هوج العناصر هيج القوى، فلن تحرك من الشرقي ولا هو يبالي بها. فهو يعلم أن لا تحول ولا تقلب ولا جديد، وأنه ما من شيء إلا وهو إلى غيره من وجه منتسب، ومنه نسخة وصورة، وإليه عائد. وما حول رقص راقصا عن نفسه قط، وإن هو حول صورة ولونه بألوان وأكثر جسده. لكن الراقص يعود في آخر الرقص طاهرا خالصا تاما إلى نفسه. كذا فلتقلب الزعازع من الدنيا ولتحولها تحويلا ولتكثر منها إكثارا ولتقوض تقويضا. فلن تحير من الشرقي باسما وادعاً، موقنا بأن الأعراض لا تذهب بشيء من الجوهر ولا تجيء بشيء: يقين الرخام. حكمة الرخام.
وهذا هو سر بقاء الشرقي ودوامه على الدهر. ولكثير ما تبيد من ألم الإنسان، فهي تنفي بشرى الحيرة عن الإنسان، ومأساة الصراع بين الكيان الناقص والكيان الكامل. فلا الشرق يعرف «ديونيزوس» يألم أنه كالفرع عضد عن أصله، وأنه وحيد مقطوع. ولا هو يعلم مأساة «ديونيزوس» يجهد أن لا تبقى حياته الفردية فرعا مقطوعا من حياة الكون، وأن تعود له الصلة بأصله فيتحد مع الكيان الكامل وروح الحياة المطلقة الكبرى. فما انقطعت صلة الشرقي بالكل المطلق ولا هو حدته أحوال ولا حصره زمان: وليد اللانهاية والإطلاق، في الله حي، عائد إلى الله. وما انحصر بشر في حدود البشرية إلا جاء الألم وجاء العجز وجاءت مأساة شأن البشر في الحياة، وما حدته حدود أفق الإنسان. لكن الشرقي غير محدود، طالق في ظرف البشرية إلى الله: فيه يحيا، وبه تنفتح له أوساع الإطلاق، وبه يسلم من ألم «ديونيزوس»، ألم الحد والفراق والوحدة والانحصار.
بكل ذا يحدث المسافر نفسه وبأنه يعلم جد العلم ما هي هذه الطمأنينة وهذه الحكمة الشرقية.
ولطالما مد فيها إلى الشرق يد السؤال، ولطالما ألح في ذلك. ولطالما حسب بعد التصبر والتطلب وتوطين النفس أن الشرق رزقه إياها وتصدق بها عليه. ولكنه ينظر في هذا المساء، فإذا العطية كاذبة وإذا الصدقة كاذبة وإذا الحسبان خدعة. وإذا هو يجد في نفسه أنه لم يفز من هذه الطمأنينة الشرقية بشيء قط. وينظر فتعاوده ذكرى آخر ما قطع من مراحل سفره الطويل.
*1942
* كاتب وأديب وسياسي تونسي «1911 - 2004»