دفعته ضرورة المساء آخر عتمة يوم من أيام الصيف، وقد جاءت ليلة ‏لألاء من زجاج. فإذا هو يجيء الجبل ظاهر المدينة، ويدخل الحديقة ‏ويقوم تحت القبة، وقد أسقط في نفسه وجاءها الإسلام. ويقول: قد ‏شوشت دواليب، وانقضى توق، وانفصمت أوتار. ولقد مات ميت. ‏ويذكر عهدا له طويلا قضاه في البحث والطب والجوس، إذ قالوا له: ‏سل الشرق سر الطمأنينة والحلم. وإذ قام فسار في طرق الشرق ‏وثناياه ن فجاب من بلاده اليابس والرطب، وذا الزرع وغير ذي ‏الزرع، والفضاء والصحراء، والسهل والحزن والنخل والوادي. ‏ودخل القصور الجنان وفاخر الأمصار ووضاح المدن. فما كان ‏فضاء من قحط ممدود، ولا مسجد وصلاة، ولا إبل وسكون منيخ، ولا ‏مقبرة وبياض قبور، إلا سألها سر الطمأنينة والحلم. وأطال السؤال ‏وأكثر مد اليد وألح وألحف حتى لقد ظن مرارا أنه فاز بالسر ‏والطمأنينة والحلم. ثم إذا هو تقوم له بعد الظن مآذن المسجد نقية ‏صاعدة كالنبال، فإذا التوق يقوم وإذا الطريق والجوس تعود.‏

كذلك سنتان في سؤال وحاجة ورجاء في الفوز... ثم يجيء هذا ‏المساء باليقظة والموت: بشوق النفس وقد خان وخوى، والطريق وقد ‏طمست عمى، وقد امتنع الحلم والاطمئنان نأى. ويحدث نفسه: «ومع ‏ذلك أفليست الطمأنينة والحلم واضحة السر بينة الطريق؟ أليس ‏أنها...؟».‏

‏«بلى. إنها نوم من السماء وروح. وبراءة من الحركة والجهد والعناء. ‏وحلول الدعة والهدوء والسكون. فالإسلام بها إسلام وإذعان. والحي ‏بها جسد وروح واعتدال. لكن -لا هي طمأنينة «أبولون» الإغريق ‏تمسك يده عنان الأفراس الجامحة ولا ترتعش ولا تألم، وتغطي ‏طمأنينته على باطن التقطع ودفين الداء ولا يحتار ولا يوجع، بل ‏سكون الرخام. طمأنينة الرخام يقوم ويقاوم ويثبت ولا خلجة في ‏القوام ولا اختلاح. كذا ألحان موسيقى الشرق، وكذا خطوط ‏نقشه، راجعة عودا على بدء ولا حركة ولا تحول ولا انتقال،- ولا ‏هي الجبن ولا العجز ولا التسليم للقدر ولا القول بالجبر، بل القرار ‏الأعظم قرار واجب الوجود. قرار الكون وادعا إلى سنينه في اكتفاء ‏ورضا. ولتكن الدنيا خضما من هوج العناصر هيج القوى، فلن تحرك ‏من الشرقي ولا هو يبالي بها. فهو يعلم أن لا تحول ولا تقلب ولا ‏جديد، وأنه ما من شيء إلا وهو إلى غيره من وجه منتسب، ومنه ‏نسخة وصورة، وإليه عائد. وما حول رقص راقصا عن نفسه قط، ‏وإن هو حول صورة ولونه بألوان وأكثر جسده. لكن الراقص يعود ‏في آخر الرقص طاهرا خالصا تاما إلى نفسه. كذا فلتقلب الزعازع ‏من الدنيا ولتحولها تحويلا ولتكثر منها إكثارا ولتقوض تقويضا. فلن ‏تحير من الشرقي باسما وادعاً، موقنا بأن الأعراض لا تذهب بشيء ‏من الجوهر ولا تجيء بشيء: يقين الرخام. حكمة الرخام.‏

وهذا هو سر بقاء الشرقي ودوامه على الدهر. ولكثير ما تبيد من ألم ‏الإنسان، فهي تنفي بشرى الحيرة عن الإنسان، ومأساة الصراع ‏بين الكيان الناقص والكيان الكامل. فلا الشرق يعرف «ديونيزوس» ‏يألم أنه كالفرع عضد عن أصله، وأنه وحيد مقطوع. ولا هو يعلم ‏مأساة «ديونيزوس» يجهد أن لا تبقى حياته الفردية فرعا مقطوعا من ‏حياة الكون، وأن تعود له الصلة بأصله فيتحد مع الكيان الكامل وروح ‏الحياة المطلقة الكبرى. فما انقطعت صلة الشرقي بالكل المطلق ولا ‏هو حدته أحوال ولا حصره زمان: وليد اللانهاية والإطلاق، في الله ‏حي، عائد إلى الله. وما انحصر بشر في حدود البشرية إلا جاء الألم ‏وجاء العجز وجاءت مأساة شأن البشر في الحياة، وما حدته حدود أفق ‏الإنسان. لكن الشرقي غير محدود، طالق في ظرف البشرية إلى الله: ‏فيه يحيا، وبه تنفتح له أوساع الإطلاق، وبه يسلم من ألم ‏‏«ديونيزوس»، ألم الحد والفراق والوحدة والانحصار.‏

بكل ذا يحدث المسافر نفسه وبأنه يعلم جد العلم ما هي هذه الطمأنينة ‏وهذه الحكمة الشرقية. ‏

ولطالما مد فيها إلى الشرق يد السؤال، ولطالما ألح في ذلك. ولطالما ‏حسب بعد التصبر والتطلب وتوطين النفس أن الشرق رزقه إياها ‏وتصدق بها عليه. ولكنه ينظر في هذا المساء، فإذا العطية كاذبة وإذا ‏الصدقة كاذبة وإذا الحسبان خدعة. وإذا هو يجد في نفسه أنه لم يفز ‏من هذه الطمأنينة الشرقية بشيء قط. وينظر فتعاوده ذكرى آخر ما ‏قطع من مراحل سفره الطويل.‏

‏*1942

‏* كاتب وأديب وسياسي تونسي «1911 - 2004»‏