«تعيشوا وترحِّموا»، بتشديد الحاء وكسرها، عبارة محلية، يختصر بها الناس تذكرهم لأعزائهم الذين فقدوهم بالوفاة، وأحيانا يستعملونها بصيغة المفرد كذلك، فيقولون «تعيش وترحِّم»، ومحلها في العادة عقب عبارة أخرى مشهورة نصها: «يرحم اللي ما عاد عليه»، وقد اخترتها عنوانا لمقالي المختصر هذا عن الراحل العم صالح عبدالله كامل، الذي التحق بالرفيق الأعلى، في ليلة رمضانية غراء، وعلى حال يغبطه عليه أحبابه، رحمه الله رحمة واسعة.

جوانب كثيرة جدا ممكن أن يتناولها من يريد أن يقرأ أو يكتب عن حياة هذه القيمة الجليلة، والقامة الجميلة، وفي تعريجي عليها بمقالي هذا، سأقتصر على الجانب الإشاري اللطيف في تناوله لآيات كتاب ربه، جل وعلا، وما سمعته عنه، بيني وبينه، مكتفيا بمختصر منه عن آيتين شريفتين عظيمتين، ومدى فهمه الدقيق لهما.

الآية الأولى، قوله سبحانه وتعالى، في سورة الأحقاف: {ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه}، تدبرها رحمه الله، ذات مرة، وقال في بداية الآية استفهام هام؛ من أهم معانيه أن المال الذي يجمعه الإنسان في الدنيا لم ولن يغن عنه شيئا من منغصاتها، وربما ألهاه عن الآخرة، وضره فضلا عن أن ينفعه، ولو تدبر القارئ للآية، وأعطاها حقها؛ لهزت قلبه، وجعلته يعمَّر أوقاته، ويحافظ على أنفاسه لئلا تضيع، ويستعد دائما للآلام، ولا ينشغل بهوى النفس وظلمانياتها..

أما الثانية، فهي الآيات الأوائل، في سورة المطففين: {ويل للمطففين * الذين إذا كتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولـئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين}؛ يقول مطلع هذه الآيات بالخصوص مانع عن التخلق بأخلاق المنافقين المنشغلين بعيوب وعثرات غيرهم، وهم يرتكبون ما هو أفظع منها، والذين يحسنون العبادة على رؤية الناس، وينسون ربهم إذا خلوا، وفيها مناداة مهمة لكل من لم يعدل، ممن تنعم بآلاء الله ولم يعتبر، واستمع إلى المواعظ ولم يتنبه، وبخس غيره وأخذ ماله بلا كيل ولا وزن، وعاش حياته خالية من الإخلاص أو الصدق أو النيات الحسنة، وبدون انتباه لحديثه، صلى الله عليه وسلم: «ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر، ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات وأخذوا بالسنين»..

العم صالح، رحمه الله، غادر الدنيا، مخلفا سيرة حسنة، ومسيرة تستحق الاقتداء، ومنهجا فريدا في العطاء المستفيض، والهمة الكبيرة، والعصامية الشريفة، والوطنية العالية، والصبر غير المحدود، وسيفتقده محبو عدم التكلف والتصنع، ومحبو القناعة والرضا، والأمل كبير في ولديه الكريمين عبدالله ومحي الدين، وبناته المصونات، وباقي ذويه الذين التصقوا به، أعانهم الله جميعا، في السير على ما خلفه لهم ولغيرهم، من عادات وفرص ومبادرات؛ فالعم صالح، رحمه الله، وإن كان خاصا بهم ولهم، فإنه لكل حي، عنده أمل، وملك الطموح، وأحب البذل، ومقت الكسل، وعمل لدنياه كأنه سيعيش أبدا، وعمل لآخرته كأنه سيموت غدا.