نعم، كما قرأتم العنوان، والتركيز على الصناعة. هي حالة وكأنها مستباحة على مدى عقود من الزمن بكل أسف. الحديث طويل ويستأهل أكثر من مجرد مقال أو مقالات، بل بحوث علمية تشخّص الواقع أملا بالخروج بحلول تصف الداء والدواء.

ومع ذلك أقول: ما الذي يجعل مصانعنا في قطيعة مع الجامعات ومراكز البحوث؟ ماذا تصنع، وكيف تصنع؟ من صاحب المصنع وما تأهيله؟ الصناعة في الدول الصناعية تقوم على شراكة إستراتيجية بين أصحاب المصانع ومجالس إداراتها والجامعات وكليات التقنية ومراكز البحوث.

هذه أبجديات لا تقبل المناقشة، كيف لمصنع أن ينتج ويتطور دون ذراع بحثي له؟ هل الحل الاستيراد لكل صغيرة وكبيرة من الخارج؟ هل المصنع المحلي مجرد مكان للتجميع وجمع أكبر قدر من المال؟ هل هذا الذي يخدم الوطن؟ وبالمقابل، لا يمكن أن تتطور الجامعات دون انخراط في احتياجات المجتمع بما فيها الصناعة، ولا يمكن أن يقفز دور الجامعة في المجتمع حتى لو قفزت في تصنيف أو سمعة بكثرة البحوث أو ببراءات اختراع بين ليلة وضحاها!.

وبالمثل لا يمكن لمصنع أن يتطور دون وجود قسم فيه للبحوث التطوير، تكون الجامعات المحلية بيت الخبرة الأول لتنفيذ مهامه.. ما الذي يجري؟ الحاصل هو بكل بساطة، الاستيراد والتركيب، والعمالة مستوردة، والبحث مجرد كلمة تعني ترفا فكريا! فكيف لعقلية مثل هذه أن تؤمن بشيء اسمه مبادرات علمية أو مستحقات اجتماعية لدعم البحث العلمي؟.

هذه العقلية لا تخالط إلا أمثالها، مع فداحة المفارقة عندما «يترزز» صاحب المصنع بـ«ديفيد» من ألمانيا مثلا في الاجتماعات تحت صفة «خبير أجنبي»! يا للتبرج الفكري (مقولة الكاتب جعفر عباس الجميلة)! الحديث مؤلم لأن الحقيقة المشاهدة مؤلمة! عندما سأل رئيس وزراء بريطانيا (جولدن بروان) المستشارة الألمانية (ميركل) عن السر وراء عدم تأثر ألمانيا بالأزمة المالية قبل عشر سنوات، قالت ما معناه: إنها الكليات أو المعاهد التقنية، أي أن هذه المعاهد - سواء ضمن جامعة أو خارجها - هي الركيزة للصناعة والإنتاج بما فيها من علم وبحوث وتطوير وإبداع.

الجامعات عندنا في سبات عميق، ونسمع بين الفينة والأخرى ببراءات اختراع، فما دور الجامعة في تسويق منتجاتها، والسعي لإلزام الوزارات والقطاع الخاص بعقد شراكات فاعلة معها.

عندما أبحث كعالم في جامعتي في مشكلة مجتمعية أو صناعية محلية، فالهدف الحقيقي ليس لنشر هذا البحث، بل لدعم الجهة المعنية في عملها، وهنا انتهى دوري، بقي على الجامعة أن تطور من عملها لتسويق هذا المنتج الذي سيكون لبنة في مسيرة التطوير والتنمية، وللتوضيح أضرب مثلا وفي مجال غير الصناعة، هل نحتاج إلى شركة يابانية لدراسة حاجات الناس في منطقة الباحة من الإسكان؟ من يعرف الحاضر والماضي لمنطقة الباحة، كيمو ناهي أو عبدالله وأحمد من أبناء المملكة وبالذات أبناء المنطقة؟.. هذه الدراسات العلمية تكون مغلفة تحت اسم مشاريع تقوم بها الجهات الحكومية بشكل روتيني، لكن ليس للجامعات ناقة ولا حتى قطمير فيها! بل حتى قيل لأحد زملائنا عندما ذهب لجهة حكومية لعرض خدمات مركز بحثي: نحن لا نحتاج لكم، فنحن نعتمد على مكاتب استشارات دولية! ولو قيل لنا إن الجامعة الفلانية تشارك من خلال مستشارين أو مكاتب استشارات فيها، فلدي من الدليل ما يكفي للقول بأن الجهات تذر الرماد في العيون بمثل هذه الأمثلة أو المقولات.

الحديث هنا عن عمل مؤسسي رصين يسمح بتعميم الفائدة للأطراف جميعها، وما يصل للجامعات من مشاريع مشتركة لا يكاد يذكر خصوصا الجوانب المالية.

لا نمانع من الاستعانة بتجارب أجنبية، لكن ليس على حساب تجاربنا المحلية التي نحن الأعرف بها، والمشكلة في الحقيقة مشتركة، والمسؤولية مشتركة بين الجامعات والجهات المجتمعية، فماذا نريد إذاً؟ نريد وضع تشريعات تتفق مع مبادئ رؤية المملكة وبرامجها، تصلح هذه القطيعة غير المبررة وكأنها هي القاعدة للعمل، خصوصا لدى أصحاب المصانع والجهات الحكومية.

هذه التشريعات تأخذ بالطبع صفة الإلزام، والنائم سوف يصحى، وبهذا نضمن أن مخرجات الجامعات المختلفة ستكون الثمرة المباركة، لأنها منتج وطني بامتياز وهو أدعى للدوام حتى ولو اشتمل بناؤه على خبرات خارجية أثبتت فاعليتها.

صحيح أن الموضوع لا يتعلق فقط بالمصانع، لكني آثرت أن أؤكد على دور المصانع؛ كونها الركيزة الأساس في تنمية الدول، فبدون صناعة في مجتمع لن يكون هناك إنتاج حقيقي ولا توزيع لموارد الدخل ولا خبرة علمية تطبيقية لعلوم الجامعات، ولا يفوتني ونحن في عين إعصار جائحة وباء كورونا أن أشير متسائلا: كم مصنع أدوية لدينا؟ كم مصنع عقد اجتمعا ولو تشاوريا أو حتى صوريا مع جامعة محلية؟.

ولعلي أختم بالقول: إذا لم يغير نظام الجامعات الجديد شيئا أو يسفر عن شيء إيجابي ملموس حيال هذا الموضوع بالذات، فلا نتوقع أن النظام يصب في تطوير الجامعات، بل ستستمر الجامعات كالعادة مجرد مدارس ثانوية كبيرة.

ألم أقل لكم إن الموضوع يحتاج إلى دراسات؟! ولهذا لنا من التجارب ما يؤكد أن الخطوة الأولى ليست تأثر جهات أو أفراد معنيين بمقال في صحيفة أو رأي عام، بل قرارات حكومية ملزمة حيال هذا الموضوع لتصب في مسيرة التنمية بوضوح. أرجو بهذا أن تكون الفكرة وصلت، والله من وراء القصد.