نعيش في عصر الشماتة الذهبي، فما كان مخفيا أو مواربا يمارسه الفرد بينه وبين نفسه في غالب الأحيان بات اليوم يظهر جليا في برامج التواصل الاجتماعي

اللهم لا شماتة، مقولة نردّدها عادة عندما نسمع أو نقرأ أو نشاهد متاعب شخص آخر أو إخفاقاته أو إذلاله، ليس كل آخر بالطبع، إنه الآخر الذي نضمر له في قلوبنا ما قد يكون غَيرة أو قهرا أو أي نوع من الانزعاج، أو ربما بضعف لدينا في تقدير الذات! المشكلة أن كل واحد ينظر إلى نفسه على أنه فوق هذه المشاعر، وأنه لم يمر بها أبدا! والحقيقة أنها، وبحسب الدراسات التي تناولت الشماتة، نوع من المشاعر التي تبدأ منذ فترة الطفولة المبكرة. الآن كيف نتعامل معها؟ هنا الحلقة المفقودة التي يتم تجاهل البحث عنها والاعتراف بها، ومن ثم العمل على مواجهتها حتى لا يَطال تأثيرها المدمّر الفرد نفسه والمجتمع، خاصة بالنسبة للعلاقات والتواصل. هنالك أشخاص قلوبهم معلّقة بأخبار الآخرين السيئة كما لو أنها شيء يغذّي أرواحهم، بينما في الحقيقة قد تكون تسممها. وهنالك من لا يكفيهم الانتشاء الذي يشعرون به مع الحدث الحزين أو المخجل أو المؤلم، بل يلبسون ثوب المسكنة ويبدؤون بنشر الخبر «يا حرام، هل سمعتهم، أو هل شاهدتهم، أو هل وصلكم الخبر»؟ إلى أن تصل تلك المشاعر بداخلهم إلى الذروة، أناس ينتشون بالحزن ويتغذون بالألم، وبالتأكيد ليس حزنهم أو ألمهم.

قليل من الناس من يعترف بسهولة بسرورهم وقت مصائب الآخرين، ولكن حقا مَن منّا لا يستمتع عندما تتم إهانة المتغطرس الجاهل، الذي يتعامل مع من حوله بفوقية وتكبر، أو عندما يتم القبض على فاسد استغل قوت الناس وصعد إلى القمة على رؤوسهم، أو مدير مستبد تمت إقالته، أو الحكم على متهور يهدد حياة الناس في الشوارع، أو لنقلل من الموقف ونقول عندما يعاني صديق، في قلبنا تجاهه شيء من الحسد، نكسة صغيرة؟! لا تستغربوا من إدراج المثال الأخير! ألم تضبط نفسك يوما وأنت تشعر بذلك، وسرعان ما استغفرت الله، وبمحاولة منك تكفيرا عن ذنبك وإرضاءً لضميرك سارعت في المساعدة؟

ذات يوم سألتني إحدى الزميلات «ما إن كان أمر أنا في انتظاره قد تم»، قلت: لا، وهنا لاحظت على زاوية فمها ارتعاش ابتسامة بالكاد يمكن إدراكها قبل اختفاء الارتعاش! «يا الله! خسارة، أنت تستحقين، فعلا لا يقدرون قيمتك، لا تنسي أنا موجودة إن احتجت أي مساعدة»، وكم جاهدت حينها السؤال الذي كان يريد أن أطلقه كرصاصة من فمي: «فلانة.. هل ابتسمت للتو»؟! لكني لم أفعل، ربما لأنني أعرف ذاتي، وكيف أنني أكره أن أحرج أي إنسان حتى ولو كان ذلك في حالة مواجهة وتحدٍّ، ولأنني إن فعلت فسوف أعاني من الندم طويلا بعدها، ثم لأنني واثقة من أن الله لن يخذلني ويضيع تعبي، سأنتظر الفرج بدلا من انتظار رد على سؤال لن يضيف إليّ شيئا، بل قد يضع ثقلا على علاقة لم أجد من خلالها أي سوء أو تهديد!

للأسف نحن نعيش في عصر الشماتة الذهبي، فما كان مخفيا أو مواربا يمارسه الفرد بينه وبين نفسه في غالب الأحيان بات اليوم يظهر جليا في برامج التواصل الاجتماعي، من خلال عدد «الإعجابات» كتعبير عن تأييد، أو إعادة إرسال ودعم بكل الطرق الممكنة. نعم الشماتة تحيط بنا اليوم من كل جانب عبر الشبكة العنكبوتية، وللتأكد ما علينا إلا قراءة التعليقات على سوء طالع المشاهير، ولم أقل القديرين، فقد يكون كذلك وقد لا يكون، المهم ملاحظة تلك اللذّات التي يشعر بها الشامتون، والتي يكاد الفرد يلمسها بيديه من ثقلها واندلاقها بين الأسطر.

الشماتة هي أسوأ سمة في الطبيعة البشرية، أي فرد يتعامل مع هكذا مشاعر وعلى العلن يجب أن يتجنبه المجتمع، بل يجب أن يقاطعه، لماذا؟ لأن من يظهرها ويتباهى بها ليس ما لديه سوى شكل من أشكال التنمر، وقد تتحول إلى تعدٍّ على الفرد وأسرته وتدمير حياته، ويجب التّنبّه لها وتعريفها، ليس لأنها مجهولة، بل لمعرفة مستوياتها ودرجات الأذى الذي قد تؤدي إليه، وليس هذا فقط بل الاعتراف بها، لأنها في داخل النفس البشرية وليست بغريبة، ولكن نخشى إن تركت هذه المشاعر دون ضبط أن تقودنا إلى الضلال، فنحن لا نعلم إلى أين قد تقود هكذا مشاعر شريرة، وما ستفعله بنا وبعلاقتنا مع أنفسنا ومع بعضنا البعض، فمن يمارسها بكل أريحية مع الغريب لن يتورّع عن ممارستها مع أقرب الناس إليه! ومن يدمن التلذذ بها سوف ينتقل إلى مسطح آخر، فبدلا من أن يكون متفرجا على عثرات الغير ومصائبهم، قد يتحول إلى متسبّب فيها أو جالب لها!