في كتاب «رسالة التوابع والزوابع» تدور أحداث حكايات ابن شهيد الأندلسي في عالم الجن، اتصل خلالها بشياطين الشعراء ودارت بينهم النقاشات الشعرية، وتبادلوا بينهم الفكاهات والطرائف وإيراد الدعابات.

في هذا العمل الأدبي المتفرد يكتب ابن شهيد واحدا من أجمل الأعمال الخيالية في تاريخ الأدب الإنساني، وظف عالم الجن وجعله مسرحا لقصته، وكتب في مقدمة القصة مدخلا وجهه لشخص كناه بأبي بكر، وكيف أن أبا بكر هذا تعجب من عبقريته، وأقسم أن الجن تؤيده لأن ما يأتي به من الأدب ليس من قدرة الإنس.

ينطبق على رسالة ابن شهيد مفهوم الأدب، فكل مقومات الأدب وعناصره موجودة ولعل أهمها عنصر التخييل، فكتابة ابن شهيد هنا تعد كتابة تخييلية، فهو لا يسرد حقائق تاريخية أو ينقل لنا معتقدات أسطورية في المجتمع الأندلسي الذي بلغ درجة متقدمة في تفسيره العقلاني للظواهر، ولكنه يسرد عملا أدبيا ينحرف بصورة منظمة عن لغة التواصل اليومية ويستخدم اللغة بطرائق وأساليب غير مألوفة، تختل معها العلاقات بين الدوال والمدلولات.

ويناقش هذا المقال فكرة (شياطين الشعر)، وقد شاع اعتقاد خاطئ بأن المجتمع الجاهلي كان يؤمن بوجودها، وكأنها عقيدة أو معتقد يؤمنون به، فهل هناك بالفعل معتقد عربي قديم يؤمن بوجود شياطين تلقي الشعر على ألسنة الشعراء؟

مع أن حضور الجن في قصائد الشعراء الجاهليين يعد بسيطا جدا مقارنة بوصف الأطلال والإبل والخيل ومظاهر الطبيعة المادية التي تقع في متناول الحواس، وأغلب ما قيل عن العالم الفانتازي لشياطين الشعر والعالم الموازي الذي يكون مسرحا لأحداث غرائبية لا يتجاوز كونه مروريات شعبية تعتمد على عنصر الإثارة في تفسيرها للموهبة الشعرية، ولكنها لم تكن معتقدا عند الشعراء، وقد فسرت فكرة شياطين الشعر تفسيرا حرفيا وسطحيا، مع أنها في الغالب لا تتجاوز كونها تعبيرا مجازيا من قبل الشعراء عن الموهبة الشعرية، وللأسف فإن الفهم الحرفي لفكرة شياطين الشعر شائعة جدا حتى بين أوساط المثقفين والنقاد الأدبيين.

فرسالة ابن شهيد وحواراته مع الجن، لا يجب أن تفهم فهما حرفيا أو محاكمتها بمقياس لغة التواصل العادية، فقد وظف ابن شهيد عالم الجن توظيفا فنيا يشابه إلى حد بعيد توظيف الشعراء الجاهليين، مع أن حضور الجن كما أسلفنا يعد حضورا نادرا لا يعطي صورة مؤكدة عن معتقد شياطين الشعر، وإلقاء الجن الشعر على ألسنة الشعراء.

كان توظيف فكرة الجن ذات مضمون مجازي استعاري، ولا يجب أن تفهم فهما حرفيا لأننا في حضرة أعمال أدبية يلعب الخيال والمجاز دورا كبيرا في بنائها الفني وصورها الشعرية، وهذا الكلام يؤيده واحد من أهم نقاد الأدب، ورائد من رواد البلاغة العربية وهو الجاحظ في كتابه (الحيوان)، تناول فيه فكرة شياطين الشعراء، بعد أن قدم شواهد شعرية متعددة ووضح من خلال سياقها اللغوي والثقافي المعنى المجازي لكلمة (شيطان)، ومنها الغضب والقبح والفطنة وشدة العارضة، وقد علق عليها بقوله: «وهذا كله منهم على وجه المثل» والمثل هنا عكس الحقيقة وهو المجاز. ويعكس هذا القول الفهم العميق والجوهري عند الجاحظ للأدب، كيف لا، وهو واحد من أبرز مثقفي عصره.

فهمت فكرة شياطين الشعراء بصورة خاطئة جعلتنا أمام عالم مواز يتداخل مع عالمنا الحقيقي، ويقحم الجن في عالم الشعر وكأن الشعراء ليسوا إلا أدوات توصيل ورابط يربط ما بين عالم الجن والإنس، وهذا الفهم الحرفي المغلوط يكرس لصورة غير حقيقية لمجتمع الجاهلية بصفته عالم فنتازيا يلعب فيه البشر دورا ثانويا ومكملا لعالم الجن الذي يمثل فيه الجن والمردة الأبطال الرئيسيين، وللأسف فإن كثيرا من الباحثين تبنوا هذه الفكرة دون مراعاة لخصوصية اللغة الأدبية.