(الحق، الخير، الجمال) مما يثير الفكر مباحث القيم، وهنا نطرق مسألة الحق مبتدئين بدروس ابن حزم في كتابه «الملل والنحل» وغيره من رجالات التراث الديني، بأن الحق يتعدد في مسائل الفقه، لكنه لا يتعدد في مسائل العقيدة، ولهذا فالمدارس الفقهية داخل الإسلام قد يتعدد فيها الخلاف حول المسألة الفقهية ولا تثريب في ذلك، ولكن الاقتتال داخل الدين نفسه يكون حول مسائل العقيدة كما بين التصورات الكاثوليكية والبروتستانتية في حقيقة المسيح... الخ، والغريب أنه بعد حروب دينية طويلة بين المسيحيين وصلوا إلى (نسبية الحق) في مسائل العقيدة بدلاً من تعدديتها، باعتبارها مفهوماً ذاتياً وشأناً خاصاً بكل طائفة ومذهب، فالرؤية الكاثوليكية عن حقيقة المسيح هي حق بالنسبة للكاثوليكي، ولكنها باطل في نظر البروتستانتي، وللبروتستانتي تصور عن حقيقة المسيح يعتبره حقا بالنسبة له ولو لم يكن كذلك بالنسبة للكاثوليكي، فكيف وصلوا لتعددية الحق في مسائل العقيدة؟ هم لم يصلوا لهذا، فالحق في مسائل العقيدة ما زال واحداً عند الجميع، لكنهم أنزلوه من مجال (الحق المطلق) الذي لا يعلمه إلا الله، إلى مجال (الحق النسبي) الذي يتعايشون به، فقد تخلوا عن ميزان (الحق المطلق) الذي اعتمدوه كميزان لكامل حياتهم، فاقتتل الكاثوليك والبروتستانت لعقود طويلة تجاوزت المائة عام دون نتيجة، مما جعلهم يضيفون لميزان (الحق المطلق) ميزانا آخر وهو ميزان الخير والشر، فهل من الخير سفك الدماء بينهم بسبب قضايا (الحق المطلق) الخاصة بكل طائفة؟ وكان الرأي الواضح لهم ــــ بعد كل سنين الحرب الطويلة ـــ أن حربهم شر محض، وأن (الحق المطلق) في مسائل العقيدة لا يكون إلا بيد الله يوم القيامة، وليس لهم الفصل فيه على هذه الأرض، فاتجهوا إلى اعتماد (الحق النسبي)، فحقيقة المسيح لها صفات محددة عند الكاثوليك هي حق (بالنسبة) لكل كاثوليكي، وكذلك البروتستانتي فمسائل العقيدة عنده هي حق (بالنسبة) إليه كبروتستانتي، ثم رأوا أن حياتهم أصبحت أقرب للخير من عهد حروبهم الدامية لأجل ميزان واحد اعتمدوه دون سواه، وهو ميزان (الحق المطلق)، فبعد أن أضافوا إليه ميزان أفعالهم هل مآلها إلى خير أو شر، تفاجأوا بما صاروا إليه من تسامح ديني، وعندما اكتشفوا هذا رأوا أن الحق في مسائل العقيدة هو حق ذاتي لا يمكن قياسه، وبقول آخر، هو (حق) ظني وفق تأويلات إنجيلية تختلف باختلاف العقول والأفهام، لكن كل هذا التواضع المعرفي، لم يكن لولا ميزان الخير والشر الذي قاسوا به حياتهم (مع الحروب العقائدية) وحياتهم (بدونها) فاكتشفوا ما هو أبعد من الخير، إذ رأوا أن الحياة أصبح لها مذاق جمالي خاص يسعهم ويسع الديانات الأخرى، فكانوا أكثر تسامحاً ليس مع بعضهم كمذاهب داخل الديانة المسيحية الواحدة، بل أصبحوا أكثر تسامحاً مع الأديان الأخرى، ورأوا في ذلك من الخير ما عجز عنه من لم يتعظ بغيره، ولهذا يستغرب البعض أن مسلماً قد يشتري كنيسة في الغرب المسيحي ويحولها إلى مسجد.