باعتبار أن جهاز النيابة العامة جهاز قضائي مستقل، ويختص بالتحقيق في مختلف الجرائم من خلال قضاة تحقيق يسمّون (أعضاء النيابة)، ويتميزون بصلاحيات واختصاصات نوعيّة وفقاً للمادة الثالثة من نظامها ومنها «التصرف في التحقيق برفع الدعوى أو حفظها طبقاً لما تحددهُ اللوائح»، فإن هناك قضايا أتمنى أن تعطيها النيابة أولوية في الصلح المختص، والحدّ من تطورها للوصول للمحاكم ثم تنفيذ العقوبة في السجون أو دور الإصلاح، ألا وهي (القضايا الأُسريّة وخاصة قضايا العقوق)، والتي تحتاج للتدخل الدقيق النوعي، مع دراسة الأسباب، والمعالجة والإصلاح، قبل أن تتطور وترفع للمحاكم من أجل إقرار العقوبات المختلفة على الأبناء حسب درجة العقوق ومدى تكراره، مما يزيد من التفكك الأُسري، وارتفاع نسبة القضايا الأخلاقية، والجريمة لدى جيل الشباب. فالعقوق معلوم لدينا بأنه ضد البرّ وهو من الكبائر المحرمة، والمتفق عليها شرعاً، لقوله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) سورة الإسراء، وقوله تعالى (وقل لهما قولاً كريماً). ومن السنة النبوية «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور»، وغيرها من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية التي توصي بالتعامل الطيب مع الوالدين والإحسان لهما بالقول والفعل. لكن لا ننسى أن هناك واجبات أيضاً على الوالدين ومسؤوليات عظيمة تجاه الأبناء منذ اختيار الرجل لزوجته كأم مستقبلاً لأبنائه، وما يحملهُ هذا الاختيار من أدوار تربوية لا يستهان بها تجاههم منذ ولادتهم حتى تنشئتهم السليمة من عدمها! ومن أبسطها التجملّ في اختيار أسمائهم، وتوفير الأمان والاستقرار الحياتي لهم، إلى العدل والمساواة فيما بينهم ذكوراً وإناثاً، منعاً للمنازعات فيما بينهم خاصة بعد وفاة أحد الوالدين، إلى غيرها من أوجه التعامل الحسن الذي لا يؤدي للعقوق بالوالدين عند الكبر! فالجهود التي تبذلها وحدات الصلح الجنائي في النيابة مؤخراً للتقريب بين أطراف النزاع في القضايا الأسرية بدلاً من الإحالة للمحاكم مجهودات تّشكر عليها، لكن يحتاج منها الاهتمام أيضاً بوجود آلية للحدّ من أسباب العقوق، وذلك بالتعاون مع الجهات المعنيّة بالبرامج الأسرية التوعوية، فهناك قضايا عقوق مستحيل أن تنشأ من فراغ، ولا بد من محاسبة المتسبب والدافع لها، قبل محاسبة الفاعل فيها. هناك آباء وأمهات أنانيّون لا يستحقون نعمة الأبوة، يميلون لمتعتهم الشخصية خاصة (بعد الطلاق) ويتركون أبناءهم وهم في أخطر مراحلهم العمرية فريسة لرفقاء السوء، والمخدرات، وكل واحد منهم يرمي بمسؤولية تربيتهم وتلبية احتياجاتهم على الآخر! وبعد مرور سنوات من التقصير والإهمال العاطفي والطرد من حياتهم الخاصة (يطالبون بأبناء صالحين وباريّن بهم)!، وقد تعاملت مع نماذج كثيرة منهم خلال عملي بوحدة الحماية الاجتماعية بالرياض، حيث كانوا سبباً مباشراً في انحراف أبنائهم وضياعهم وتشتتهم وكرههم بعد ذلك لاحترام (الوالديّة)!.

هذه النماذج من الآباء والأمهات ألا تستحق تطبيق عقوبات بديلة صارمة انطلاقاً من حديث رسولنا الكريم (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته....)، فهذا الحديث أصلٌ في تحمّل المسؤولية التي سوف يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة، بدلاً من تحويل الأبناء لدور التوجيه الاجتماعي أو السجون، وقطع الطريق عليهم بعد انتهاء العقوبة في التمتع بحياة كريمة؟!