في الحقيقة أن كثيرا من المعلمين والطلاب قد يَرْتَابُوا من التعليم عن بعد ويرونه بثنائية إما/ أو (إما تعليم عن بعد، أو تعليم تقليدي)، خاصة وأنه ارتبط في أذهانهم ارتباطاً شرطياً بجائحة كورونا والعزل المنزلي، لذا لا بد أن يكون تطبيع التعليم عن بعد هو الخطوة الأولى في طريق اتخاذه خياراً إستراتيجياً، ويتم ذلك من خلال إجراء تغييرات تجعل العلاقة بين التعليم التقليدي والتعليم عن بعد علاقة طبيعية تلقائية غير مستنكرة أو متكلفة حتى يصبح جزءا من نسيج نظام التعليم الحالي، فيرى المجتمع بأكمله القيمة المضافة التي أوجدها التعليم عن بعد تحت مظلة التعليم الرسمي، وأنه أكثر من مجرد تعليم طوارئ يُفعّل في وقت الأزمات، كما أن هذه التغييرات من أجل تطبيع التعليم عن بعد تنقسم إلى درجتين: 1) التغيير من الدرجة الأولى الذي يهدف لجعل ما هو موجود أكثر فاعلية دون الإخلال بالتنظيمات الأساسية للعمل، و2) التغيير من الدرجة الثانية وهو يسعى إلى تغيير الطرق الأساسية التي يتم بها العمل في النظام مثل تغيير الأدوار أو الترتيب الزمني أو المكاني.

وحتى يكون الحديث عملياً سأذكر -على سبيل العرض لا الحصر - طريقة مقترحة لتطبيع التعليم عن بعد، وهي أن يخصص يوم في الأسبوع للتعليم الافتراضي ويسمى (أتعلم من منزلي)، حيث يتعلم الطلاب من منازلهم ولا يحضرون شخصياً للمدرسة، ويترتب على ذلك إعادة هيكلة جدول الحصص الدراسية، بحيث يقسم نصاب الحصص لبعض المواد إلى جزئين: حصص تدرس بشكل تقليدي في المدرسة، وحصص تدرس بشكل افتراضي عن بعد، ولا بد أن يحرص المعلم عند تصميم دروس الحصص الافتراضية على أن يصمم مواقف تعليمية لا يمكن تنفيذها في الحصص العادية، وذلك بهدف تقديم تجربة تعليمية عن بعد متكاملة ومكملة للتعليم التقليدي (غير مكررة له).

ويترتب على هذه الطريقة كثير من المحصلات من أهمها ردم الفجوات التي يصعب معالجتها في شكل التعليم التقليدي مثل ضعف الممارسة الواقعية للغات الأجنبية، وصعوبة التفاعل مع بيئات طبيعية حقيقية، وكما يقال بالمثال يتضح المقال، فمثلاً في حصص اللغات الأجنبية (الإنجليزية أو الصينية) من المعلوم أن أفضل الطرق لتعلم اللغة هي ممارساتها مع متحدثين أصليين في مواقف حقيقية، وهذا ما يستحيل تطبيقه في نظام التعليم التقليدي، ولكنه ليس مستحيلاً في القاعات الافتراضية للتعليم عن بعد، فتخيل معي عزيزي القارئ طالبا يدرس ثلاث حصص لغة أجنبية في المدرسة لمواضيع مثل قاعدة المضارع، التعابير الاصطلاحية المناسبة للمناقشة، وطريقة كتابة الرسالة، ومن ثم يدرس حصتين في القاعات الافتراضية لتنمية مهارات التواصل الحقيقي مع متحدثين أصليين native speakers - بتطبيق ما تم دراسته نظرياً في المدرسة - وفي مواقف تعليمية مخطط لها وذات أهداف ومخرجات مقاسة، أليس ذلك رائعاً لاكتساب اللغة وإيجاد القيمة المضافة للتعليم عن بعد!، وكذلك في حصص الأحياء يسمح التعلم عن بعد بتقديم تجربة تعليمية متميزة مثل أخذ الطلاب في رحلات افتراضية تزامنية تفاعلية لمشاهدة بيئات بعض الكائنات الحية في متنزهات وطنية أوروبية، أو إفريقية، أو أمريكية، وذلك بمرافقة مرشد يرافقهم طوال الرحلة بالكاميرا من المتنزه، ويتوقف في محطات متعددة للإجابة عن تساؤلات الطلاب عن حيوانات أو نباتات معينة، أو تقريب الكاميرا من نبتة معينة لملاحظة تركيبها، فيحظى الطلاب بتجارب ممتعة وشيقة ومفيدة في القاعات الافتراضية، وتجعل من اتجاههم نحو التعليم عن بعد إيجابياً.

وبطبيعة الحال عند تطبيق طريقة (أتعلم من منزلي) سيكون هناك متسع في الجدول الدراسي بسبب نصاب الحصص التي تُعقد افتراضيا، فتغيير الترتيب المكاني والزمني للتعليم الرسمي ولو ليوم واحد أسبوعياً سيعطي نظام التعليم فرصة لتطبيق الممارسات التربوية العالمية الهادفة التي كان ازدحام زمن اليوم الدراسي يقف عائقاً في طريق تطبيقها، من أمثلة هذه الممارسات استغلال وقت نصاب الحصص التي تعقد افتراضياً في إعطاء الطلاب دروس التقوية Instructional interventions في مواد أساسية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، أو إنشاء وقت مخصص للاستذكار - تسمى في نظام التعليم الأمريكي والبريطاني Study Hall –، هي مصطلح لوقت خلال اليوم الدراسي، حيث يقوم الطلاب في هذا الوقت بحل واجباتهم ومراجعة دروسهم- تحت مراقبة معلم - فيعود الطلاب للمنزل ليمارسوا هواياتهم مثل الرياضة فيما تبقي لهم من اليوم.

ومجمل القول أن التغييرات التي تهدف لتطبيع التعليم عن بعد مع التعليم التقليدي هي الخطوة الأولى في طريق اتخاذه كخيار إستراتيجي للمستقبل. وما ذُكر هنا نزرٌ يسير من طرق ومحصلات تطبيع التعليم عن بعد مع التعليم التقليدي، فهو مجال خصب للتربويين ذوي الإنتاجات الفكرية الإبداعية، ليبحثوا فيه ويخرجوا بطرق وأفكار ابتكارية تتلاءم مع نظام التعليم في وطننا العزيز.