من الظواهر التي يحاكيها علماء النفس والاجتماع لوضع تفسير لها، ظاهرة تعمد بعض الناس نقل العدوى إلى غيرهم، وهي ظاهرة قد تكون قديمة؛ ففي عام 2017 تعمد الشاب الإيطالي «فالنتينو تالوتو» نقل عدوى الإيدز لحوالي (30) امرأة، مما دفع محكمة الجنايات في روما إلى الحكم عليه بالسجن لمدة (24) عاما.

غير أنها أصبحت مرتبطة هذه الأيام بما يعانيه العالم أجمع من الوباء الذي يطلق عليه (كوفيد-19)؛ فإننا كثيرا ما نسمع عن تعمد بعض الأشخاص المصابين نقل العدوى لغيرهم من خلال البصق، حيث انتشر مقطع فيديو يظهر رجلًا يبصق على جميع الأزرار الموجودة في مصعد المجمع السكني، فكيف يفسر هذا الفعل؟ هل هو غضب أم انتقام؟ ما أسبابه ودوافعه؟، كيف يتم التعامل مع هذا الفعل من وجهة نظر اجتماعية نفسية؟.

قوة السعي الدؤوب وراء الانتقام

إن للسعي وراء الانتقام جذورا عميقة، تبدو غريزية في ذخيرة السلوك الإنساني، فمنذ فجر الحضارات فرضت السلطات العليا عقوبات تقوم على أذية الشخص بذات الطريقة التي آذوا بها الآخرون، ومن خلال ذلك يسعى بعض الأشخاص إلى تهدئة آلامه النفسية عن طريق المهاجمة.

غير أن السؤال هنا: ما فائدة فعل الانتقام في التخفيف من معاناة الشخص وهل يبرر ما يطلق عليه عدالة الهمجيين؟

يقول الفيلسوف فرانسيس بيكون: إن المرء الذي يسعى وراء الانتقام يبقي جراحه يانعة، وقد كان يمكن لهذه الجراح أن تندمل لولا سعيه وراء الانتقام. وفي نفس الوقت قد يخلق الانتقام شعورا سلبيّا نتيجة ما نخسره في سبيله، إضافة إلى شعور الذنب والتفكير، فأغلب مرارة الانتقام بعد تنفيذه، وهذا ينطبق على جملة من الأشخاص، ولكن على الصعيد الآخر قد تفتقر كليّا للحس الأخلاقي أو الضمير، وقد وجد الباحثون أن الانتقام لا يخلق مشاعر إيجابية كما نتوقع.

نقل العدوى عمدًا هل هو عداء شخصي لمجتمع معين أم سادية عامة؟

إن «اضطراب الشخصية المعاديه للمجتمع Antisocial personality disorder» هو اضطراب ناجم عن اضطراب عقلي يؤثر على سلوكيات ومشاعر وأفكار الشخص المرتبطة بالآخرين، حيث تجعله لا يشعر بالندم والقلق تجاه ما يرتكبه في حقهم، ومن ثم يتصرف بطريقة غير مسؤولة تُظهر ميوله العدوانية وميله للإساءة والانتقام مثل الأعمال التخريبية، ويصفه بعض المختصين بأنه كالحجر البارد، وذلك لقدرتهم على أذية الآخرين دون أن يرف لهم جفن، وعدم الشعور بالذنب هذا يدفع إلى خرق القانون مرارا وتكرارا.

في المقابل تتضمن (السادية) الحصول على السعادة من خلال الآخرين؛ فالأفراد الذين يعانون من «اضطراب الشخصية السادية» يرتكبون الأفعال بشكل أساسي للحصول على المتعة أو لتحقيق السيطرة والهيمنة المدفونة بأعماق النفس، بينما يرتكب الأفراد الذين يعانون من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع هذه الأفعال بشكل أساسي بسبب طبيعتهم العدوانية بغرض التغلب على الضغوطات، والتي هي من أكثر المشاعر البشرية تدميرا واستنزافًا.

الدوافع وراء تعمد نقل عدوى (كوفيد- 19)

1- يكمن السبب الأساسي وراء هذا الفعل في مرض ناتج عن الاضطراب النفسي لهؤلاء الأشخاص، وهذا ما يجعلهم يؤمنون بأشياء تولد لهم عداوات شديدة ضد المجتمع الذي يحيون فيه، حيث تطغى عليهم نزعة الانتقام من المجتمع، مما يجعلهم يرون أن اقتراف هذا الجرم أمر طبيعي ويرسم لهم الشكل الأضمن للعدالة.

2- وقد يكون لهذا الفعل أيضا جذور تاريخية تتمثل في مجموعة من الأحداث المتواترة أو في التعرض إلى تنشئة اجتماعية مليئة بالعنف تدفعه إلى بعض السلوكيات عندما يشعر بالسوء حيال نفسه مقارنة بالمعايير التي وضعها لنفسه هو والمجتمع.

3- الرغبة في إثبات أن المرض ليس أمرا حقيقيا فقد تكون تصرفات بعض الأشخاص المصابين بفيروس كورونا بالتجول والالتصاق بالآخر نابعة من إنكار داخلي لديهم بوجود هذا المرض، وهذا الإنكار يؤدي إلى أنهم يتجولون بشكل طبيعي، وتلك الشخصيات لا تكون متزنة ولا عقلانية، بل تكون مندفعة وغير منضبطة، ويشعرهم تعميم المرض بأنهم ليسوا وحدهم بل يوجد آخرون.

4- الشعور بالغضب وعدم الرضا عن الذات، هذا الشعور الذي يدفع إلى التصرف بهذا الشكل، حيث إن محاولة نقل العدوى تغذي لديهم هذا الشعور بشكل جيد، ويمكن أن يكون الغضب من الأنظمة الصحية هو ما يجعلهم يتوجهون لهذا التصرف غير السوي.

5- الحقد والحسد يدفع لمثل هذا الفعل، الضغينة وما تحملها ومن روح الأنانية المطلقة حتى ولو على حساب الآخرين، والحسد يأخذ أشكالًا متنوعة مستترا أو معلنا، وهذه الشخصيات شخصيات شاذة، وكل ما يهمهم هو حصولهم على المكسب المعنوي المتمثل في اللذة الفورية.

وقد يتساءل البعض مرارا: ما الذي يجنيه الشخص من فعل كهذا؟

والإجابة أنه في الحقيقة لا يجني شيئا من هذا، فهذه الأفعال موسومة بالأنانية واللاإنسانية، لكن الأفراد الذين يقومون بها لا ينتبهون لهذه الإمور بقدر انتباههم لأنفسهم، حيث تشعرهم هذه الأفعال بكثير من الطمأنينة، كما يصور لهم أنهم بهذا يشعرون أنفسهم بأنهم ليسوا الوحيدين الذين أصيبوا بهذا المرض.

يذكر أن هؤلاء المصابين بهذه الاضطرابات لا سيما الميول العدوانية هم قلة قليلة، لكن لا ينظر لهم من حيث الكم فقط، وإنما ينظر لهم من ناحية الكيف، وكل هذه الظواهر السلوكية الخاطئة هي ثمرة الجهود المبذولة لتحطيم الإنسان نفسه وفكره وتأثيره السلبي على المجتمعات.

الشائعات تثير التوتر

دورنا في مثل هذا النوع من الأزمات في التصدي للمهددات التي تؤثر على استقرار المجتمع، لافتين إلى أن هذا الدور قد يبرز من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لتوعية الأفراد في التخلص من القلق من خلال الاستماع للتوجيهات والتعلميات من مصادرها الرسمية، والالتزام بالقوانين لضمان السلامة والنظام، والتركيز على الابتعاد عن الشائعات التي تؤثر على الهدوء العام للمجتمع، وتشتت جهود الحكومة بدلا من تركيزها على الأولويات.

الأخصائيون في ظل هذه الأزمة:

لا عجب لو قلنا إن أزمة كورونا قد ولَّدت شبحًا من الخوف والشعور بعدم اليقين، حيث يقف الإنسان عاجزًا أمام آفة المرض، والشعور كذلك بأنه هارب ومتخف في البيوت، فالعلوم الطبية تقف عاجزة حتى الآن أما هذا الوباء الشرس، والجميع يترقب اللقاح المخلص، ويتقصى أخبار الأدوية والأمصال التي دخلت الاختبار.

في هذه الظروف يبرز التحدي الكبير الذي يواجهه الأخصائيون، والمسؤولية المضاعفة الملقاة على عواتقهم تكبر في ظل هذه الأزمة؛ حيث إن تشجيع الناس قد يخفف وطأة ما يمر المجتمع به؛ حيث يمثل دور الأخصائي الاجتماعي النواة الحقيقية لعودة الأمور إلى نصابها، وذلك من خلال توعية الفرد على المستوى الخاص والمجتمع على المستوى العام.

ومما يساعده على الأخذ بيد هؤلاء الأفراد الذين ظهرت بعض سلوكياتهم المضطربة في واقع هذه الأزمة، البيانات التي تصدر عن المنظمات العالمية العامة، وذلك بالإضافة لآلياته هو «الأخصائي الاجتماعي»، وهذا لا يحدث إلا في مجتمع يقدر دور الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، ويمنحهم الثقة اللازمة، ويعلم أنه متى وقع له مكروه سيكون للأخصائي الدور الرئيس في انتشاله منه.

وفي النهاية يتجلى الدعم والتوجية الاجتماعي وكذلك النفسي لأنها المطلب الأساسي الآن، فلا صحة دون صحة نفسية وإرشاد اجتماعي مكين، وبالطبع يحتم علينا كأخصائيين أن نقدم كل الدعم اللازم لكل من يحتاجه في هذه المرحلة العصبية.