... أما الشيخ عبدالله حمدوه فإن صورته في ذهني في ذلك السن الذي أحكي انطباعاته، تمثل الأشباح المروعة المخيفة، فلقد كان طويلا، أسمر اللون، حاد القسمات والملامح، يُرى دائما في حالة صمت موحش كصمت الأبدية، كما يُرى دائما متحفزا للجزاء، وكان يعلن حبه لعائلتي، ويتجلى ذلك الحب في إحاطتي دائما بمراقبته، وتتبع حركاتي ومحاسبتي على ما أظهر وأضمر وما آتي وما أذر، فكنت أشعر بروحه المرعبة المخيفة تطاردني وأنا في الشارع والبيت، وإذا كنت وحدي أو بين أهلي أو زملائي، ولم يكن يفرغ في ملاحقته لي عند حدود الواجبات المدرسية، بل يتعدى ذلك إلى السلوك، وكثيرا ما كان يفاجئني بحملات عنيفة على أخطاء يتهمني بارتكابها في المنزل، ورغم أنني لم آتي شيئا منها يجعلني بحملته الصارخة الجادة، أتصور أنني أتيتها فأتوسل وأستغفر وأعد وعدا قاطعا بأن لا أعود لمثلها، وكنت أبالغ في البر بوعدي ومع ذلك لم أسلم من تكرار التهمة، ولقد كان أسلوبه هذا القاسي في المدرسة إلى جانب الأسلوب التربوي الذي كنت أجده في المنزل، يدفعاني إلى اتجاه واحد وهو يقظة الحس الدائم والخوف من ارتكاب أي خطأ، بل إلى تخيل الخطأ في كل تصرف يصدر مني رغم إسرافي في تنقية تصرفاتي من الخطأ، ولقد كان هذا الضغط الشديد في الخوف من الخطأ، له أسوأ الأثر في حياتي العملية لأنه جعلني إذا أردت الإقدام على أمر ما تبدو لي جميع جوانبه التي تشجع على إنفاذه وعكسها التي تدفع إلى الإحجام عن إنفاذه، ولا يمكن أن أتصور أمراً إلا وينصرف ذهني للبحث عن جوانب النقص فيه، وقد سبب لي هذا الإحساس متاعب لا يعرفها إلا من جرب المواقف التي تنبني عليها حياته، ثم تلتقي أفكاره للبت فيها عند وجوه متناقضة، ولا يصل إلى حد البت في أمر من الأمور إلا بروح المجازفة، أو الصدفة أو أي وسيلة تمكنه من ترجيح جانب على آخر في تفكيره ورأيه.

وحين سافرت في البعثة إلى الهند كنت أشعر بأن الشيخ عبدالله حمدوه سيحاسبني حسابا عسيرا عند عودتي على ما فعلت، ولذلك فقد كنت أجتهد وأحضر نفسي لحسابه، ولكنه رحمه الله توفي قبل عودتنا من الهند، ولست أنكر أنني رغم حزني يومئذ عند سماعي بنبأ وفاته، شعرت ببعض الراحة من عناء المطاردة والمحاسبة، وكما طبع في نفسي له هذه الصورة المرعبة المخيفة فقد ترك صورة أخرى – صورة تمثل التقوى والصلاح والبر بالضعفاء وحب الخير والسعي في مصالح الآخرين، فقد كان في غير مواعيد المدرسة ملازما للمسجد الحرام في صمته الأبدي، يبدو على سحنته الطاهرة ذلك الإشعاع المبهج الذي يتجلى من الأرواح البريئة الطاهرة المؤمنة، فينعكس بريقه المحبب الجذاب على الوجوه والعيون، وكان معروفا بأنه ملجأ لأصحاب الحوائج يقضيها لهم ويصلح بين المتخاصمين، ويسعى لإصلاح شؤون الناس القريب منهم والبعيد ومن عرف ومن لم يعرف، وكان يحمل الأذى الذي يوجهه إليه خصومه بروح سمحة وحلم وصفح جميل، وكان من أشد الناس تقديرا للمسؤولية وحرصا على القيام بالواجبات التي يلزمه ضميره القيام بها، ولقد كان ضميره ضميرا إنسانيا يحس بأنه ملزم بالاضطلاع بجميع المسؤوليات الاجتماعية والأدبية التي لا تجد من يضطلع بها أو من يعين عليها، ولذا فلقد كان ذكره الطيب على كل لسان وشكران معروفه من كل إنسان. ولقد سمعت عن يوم وفاته كأن جنازته خرجت من معظم بيوت مكة، وعم الحزن عليه، وتبادل الناس العزاء فيه كأنه فقيدهم جميعا، وكذلك فقد ترك في نفسي انطباعات الخوف والحب والرجاء والقدوة الصالحة والشخصية المثلى، وترك بين جميع عارفيه قلوبا تحيي أثره وتمجد ذكره في الخالدين.