(1)

في اليوم التالي من بيان مكافحة الفساد الأخير، كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء الذين يتسمون برؤية نقدية، وقراءة نفسية للتفاعلات الإنسانية في محيطنا، حول ما جاء به البيان. يعلق صديقي ويقول، إنه عندما اطلع على وقائع الأحداث كما جاءت في بيان الهيئة، لم يستوعبها وذهب لإحضار ورقة وقلم، وبدأ بالتسجيل؛ (موظفون في شركة الكهرباء، عضو هيئة تدريس، مقيمون عقاريون، طبيب، موظف في وزارة التعليم، عميد في الشرطة، فرد في الأمن العام، موظفو جمارك، موظف نيابة عامة، رجل أعمال يملك مستشفى، مقدم في وحدة ضبط جنائي في أحد أقسام الشرطة، موظفون في شركة الكهرباء مع مهندسي مشاريع، موظف في وزارة الإعلام، موظفو بلدية). يعقب صاحبي فيقول إن غالبية هؤلاء المضبوطين في هذه القضايا يعتبرون من أصحاب الوظائف المرموقة مجتمعياً نوعاً ما، فما الذي يدفعهم لمثل هذه التلاعبات، خصوصاً أن بعضهم أقسم على حفظ الأمانة. ثم يضيف متسائلاً؛ هل مجتمعنا فعلياً لا يجرّم الفاسدين ولا يدينهم، وبالتالي نجد مثل تلك الممارسات من شخصيات رفيعة علمياً وعملياً واجتماعياً؟

(2)

أعتقد أننا في مرحلة ماضية، كنّا كمجتمع، متراخين في الحزم ضد الفساد والفاسدين، بل إننا قد نحترم بعضهم خصوصاً إذا وصلوا إلى مناصب عليا في المؤسسات الحكومية، أو تملكوا مبالغ وأرصدة متضخمة في القطاع الخاص. أما اليوم فأرى أن هذه النظرة بدأت بالتلاشي، وخصوصاً بعد الحملة الشرسة التي قادها ولي العهد في لجنة مكافحة الفساد الشهيرة، والتي جاءت نتيجة لها، ترتيبات وتنظيمات بضم أجهزة الرقابة ومكافحة الفساد مع بعضها البعض مع إعطائها نوعاً من القوة.

(3)

لا بد من الاعتراف بأن الفساد لن ينتهي ولن يزول بسهولة، بل سيستمر وسيتشكل بصور ومظاهر أخرى جديدة. وأرى أن أحد هذه الأشكال التي قد يكون فيها شبه كبيرة في الفساد، هو ما تطبقه بعض الجهات من غموض وعدم شفافية في طريقة تعاملها مع مصادر البيانات والمعلومات في داخل أروقتها.

(4)

يرى مدحت أبو النصر في كتابه (الحوكمة الرشيدة) أن الفساد يزداد وينتشر عند غياب الشفافية، أي أن مصدر قوة الفساد هو في الغموض وعدم الوضوح، فالرشوة والسرقة والخداع وغيرها من مظاهر الفساد لا تتم أمام الأعين وفي وضح النهار، وإنما تتم خلف الستار وفي الظلام.

(5)

كتبت في مقالة سابقة عن ضرورة إدخال كلمة الشفافية في مسمى الهيئة العامة لمكافحة الفساد قبل أن تتحول لهيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وقلت حينها إن الشفافية يجب أن يكون لها قطاع كامل داخل هذه الهيئة، ويجب أن تطبق ممارسات الشفافية داخل الجهات الحكومية بضغط من الهيئة.

لو سألت أي موظف في وزارة أو في هيئة حكومية عن مستوى الشفافية والحوكمة الداخلية في ما يتعلق بالأمور الوظيفية من ترقيات واستثناءات، أو في الأمور المالية من رواتب ومزايا وخلافها، لأجابك بأنها معدومة أو شبه معدومة، وكل الحديث حول هذه الأمور محاط بسرية كبيرة ولا يسمح بتداولها بين الموظفين.

(6)

يرى حمود المحمود أن العرب هم أكثر من يتحدث عن عصر الديجتال والبيانات والذكاء الاصطناعي. مع أننا في الواقع نحن أكثر الدول مقاومة لشفافية البيانات ما بين المؤسسات، أو ما بين أفرع المؤسسة نفسها. وهذا ما يتنافى تماماً مع الانتقال لهذا العصر القادم.

(7)

قبل النهاية. (الترقيات الاستثنائية) أتمنى من هيئة مكافحة الفساد وضع استبيان عام لقراءة وجهة نظر الموظفين تجاه هذا الموضوع. هل ما يتم تطبيقه يعتبر شبهة للفساد أم هو نظام عادل؟ شخصياً. أعترف بأن هذه النقطة شائكة ومعقدة، لأن نظام الموارد البشرية الصادر من وزارة الخدمة المدنية (سابقاً) في الأساس ترك الشروط الخاصة لهذه الترقية معوّمة ومفتوحة التأويل من قبل الجهات نفسها وهنا مربط الفرس.