ما بين «كان يا ما كان في قديم الزمان» و«عاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات»، عالم من الأحداث والشخصيات المشوقة والصور الجميلة والرائعة للأخلاقيات والقيم، ومن ينتمي إلى زمن مضى، زمن حكايات الجدّة أو قصص الحكواتي، أو ربما لم يمر عليه سوى قصص الأطفال التي كانت تباع وتجد لها رواجا في المكتبات. من ينتمي إلى هذه الحقبة أو التي جاءت بعدها بقليل، سيلاحظ اليوم بالتأكيد التغيّرات التي طرأت على القصص ذات المغزى الأخلاقي، والتي كانت مُفعَمة بالقيم، هذه التغيرات تخبرنا عن أنفسنا وعن التحولات التي مرت بها مجتمعاتنا، لأنها ببساطة ليست سوى مرآة للمجتمع الحاضن!

كانت الحكايات والخرافات التي لا حصر لها عبر التاريخ تنقل الدروس الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية عن طريق جذب انتباه المستمعين من خلال أسلوب الحكواتي في السرد، وكيف كان يقدم الشخصيات المثيرة والأحداث المشوقة، قد يعتقد البعض أنها بدأت منذ أيام الإغريق مع خرافات إيسوب، ولكن حسب مراجعتي لكثير من المراجع وجدت أنها أقدم من ذلك بكثير، بل إنها أقدم حتى من ملحمة جلجامش، إنها في رأيي مع بداية الإنسان في التحدث ورغبته في تعليم أولاده أو ترهيبهم أو تنبيههم إلى ما قد يجدونه في العالم المجهول والخطير من حولهم.

ومع تطور الإنسان الاجتماعي الذي كان يعيش في الكهوف، ثم الزراعة، ثم الصناعة... إلخ، ومع الأحداث التاريخية التي صاحبت تلك التطورات من غزوات وحروب واحتلال، ومن التغيرات في الفكر السائد سواء أكان كلاسيكيا أو رومانسيا أو تقدميا، نجد أن هذه القصص والخرافات قد تغيرت أيضًا، فمثلا كانت في البدايات تتناول كل المواضيع من سِفاح القربى إلى التوحش والتعذيب إلى الاغتصاب، إلى أن جاء وقت لم يكن المجتمع فيه يتقبل هذه المواضيع، فتم إجراء بعض التعديلات من حذف أو إضافة حسب العصر الذي كانت تقدم فيه، وتحول الكثير من الشخصيات إلى حيوانات، بحيث يتم تقبل ما يحدث لها دون التركيز على شخصية معينة، فتظل خصال الحيوان ثابتة لكل من يقرؤها في أي بقعة من بقاع المعمورة، أما الشخصيات في القصص المشهورة، والتي ربما نجد أن لها جذورا في الكثير من المجتمعات والحضارات حول العالم، فبقيت على هيئة البشر، ولكن التغيير طال تصرفاتها، بحيث بعد أن كانت سلبية وتتلقى أحداثا كما تأتي، باتت هي التي تقود التحرك وتقرر، بل تثور وترفض الانصياع، بينما ما حدث في مجتمعاتنا العربية مختلف فيما يخص المرأة، حيث كانت في وقت مضى تقدّم على أساس أنها الفارسة ذات الذكاء والحنكة والحيلة، حتى جاء وقت قُدّمت فيه على أنها الضعيفة الغبية الثرثارة! أما فيما يخص الرجل فقد بقي على صورته، فهو الفارس البطل المغوار صاحب الصولات والجولات والقيم العالية، لكنه مع مرور الوقت اختفى ليحل محله البطل الغربي المنتقم المتهور الباحث عن القوة والمال والنفوذ! وهذه مجرد أمثلة من كثير غيرها من التحولات في القصص التي أمسكت بها اليوم أفلام الرسوم المتحركة، وأصبحت هي المعيار للحكايات في جميع أنحاء العالم! لقد تم نسيان المعاني والدروس العميقة للإصدارات القديمة من الخرافات والقصص، وتم التحول من دعم القيم والمبادئ إلى احتضان مفاهيم الأخلاق النسبية (الغاية تبرّر الوسيلة، نفسي وما تريد) والاكتفاء الذاتي (لا حاجة إلى أحد، لا تعاونَ أو تعاطفًا)!

لقد انتقلت الحكايات الخرافية من السرد الشفهي إلى القصص الخيالية الأدبية، فمثلا في تراثنا نجد قصص: ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وأبو زيد الهلالي، وفي الغرب مجموعات القصص بدءا من المجموعة القصصية لـ «سترابارولا» الذي يعتبر الأب الروحي للحكايات الأدبية، ثم الفرنسي «بيرولت» الذي ألف مجموعة قصص الأطفال «حكايات الأم إوزة» التي ترجمت إلى كثير من لغات العالم، إلى المجموعة القصصية للأخوين «جرم» التي احتوت على حكايات مأخوذة من تراث مجتمعات مختلفة حول العالم، ثم جاء وقت تحولت فيه إلى رسومات في مجلات مخصصة للأطفال والكبار أيضا، إلى أن جاء عصر الصور المتحركة، ومن ثم السينما، هل يمكن لنا أن نتخيل الوسيلة القادمة التي ستنقل القصص الخيالية إلى الأجيال القادمة، وما يمكن أن تحتويه من رسائل مؤثرة سوف يحرص منتجوها على غرسها في وجدان البشر؟ بما أن الحكاية الخيالية تتأثر بالمجتمع وتؤثر فيه، بل هي مرآة له بما تحتويه من قيم ومبادئ وأخلاقيات، أستطيع أن أقول، وبمتابعة تطور التكنولوجيا السريع من حولنا، نعم يمكن أن نتخيل، ولكن للأسف الصورة ليست وردية! إنّ هناك شيئا وحيدا مؤكدا وواضحا بالنسبة للاتجاه الحالي للقصص أو الحكايات الخيالية، لا يشير إلّا إلى التناقض الأخلاقي، بل إن المستقبل المنظور على ما يبدو غير أخلاقي!