فرضت جائحة كورونا التي يعاني منها العالم أجمع في هذه الأيام تغيرا كبيرا في أسلوب حياة الناس، ودفعتهم إلى تبني خيارات جديدة، بسبب الإجراءات الواجب اتخاذها لضمان الوقاية من انتشار المرض، وهو ما دفع دول العالم كافة إلى إغلاق اقتصاداتها، لتحقيق التباعد الاجتماعي وتقليل فرص الاختلاط بين أعداد كبيرة من الناس قد تتسبب في انتقال المرض وزيادة مخاطره. ونتيجة لتلك الإجراءات المستجدة فقد أصبح الناس يعيشون بأسلوب حياة جديد يقوم على البعد عن الاختلاط، ولم يكن هناك بد من اللجوء إلى خيار العمل عن بعد من خلال الإنترنت، لضمان استمرار المصالح العامة.​

منذ بدء الإجراءات الاستثنائية التي أقرتها القيادة السعودية، كان الحرص واضحا على ضمان عدم تأثر حقوق الناس أو تأثرهم بتلك الإجراءات، لا سيما تلك المصالح المرتبطة بالنظام العدلي وعمل المحاكم والأجهزة القضائية. ورغم الخصوصية التي تميز عمل الأنظمة العدلية، إلا أن وزارة العدل لم تقف مكتوفة الأيدي، وقامت بإقرار مبادرة التقاضي عن بعد، التي تعد مبادرة جديدة من مبادرات الوزارة، بهدف استخدام وسائل التقنية الحديثة للفصل في الدعاوى، منذ مرحلة رفع عريضة الدعوى مرورا بالترافع وحتى مرحلة صدور الحكم وتنفيذه.​

وقد مثلت تلك المبادرة نقلة نوعية في طريق التحول الرقمي الذي تسعى إليه الدولة في أجهزتها ومؤسساتها كافة، تنفيذا لمتطلبات الحكومة الرقمية واللحاق بركب العصر ومسايرة التطور الذي يعتري أشكال الحياة كافة. كما تهدف وزارة العدل إلى تحقيق عدد من أهدافها المتمثلة في تعزيز جهود خطة تطوير المنظومة القضائية، والإسراع في إكمال التحول الرقمي، ورفع كفاءة الأداء، للتسهيل على المواطنين، والحد من حالة التكدس والازدحام داخل المحاكم.​

وعلى الرغم من أن هذه الخطوة استلزمتها بالأساس الجهود المبذولة للتصدي لجائحة كورونا (كوفيد 19)، حيث لا يخفى تأثير انتشار الفيروس على عمل قطاع القضاء من حيث تعطيل المحاكم، إلا أن النجاح الذي صاحبته هذه التجربة كان كبيرا وفاق المتوقع منه، حيث برز العديد من المكاسب، مثل زيادة كفاءة النظام القضائي، والحد من التكاليف، وتقليص أمد الخصومات القضائية، وتبسيط الإجراءات القانونية والأعمال الإدارية، وزيادة إنتاجية المحاكم وجودة العمل، وتوفير الجهد والمال والوقت، والحد من الزحام، إضافة إلى تقريب العدالة من المواطنين، خصوصا القاطنين في المناطق النائية، وغير ذلك من المكاسب.​

ولأن عالم ما بعد ظهور جائحة كورونا لن يكون قطعا كما كان عليه الحال قبلها، فإني أرى من واقع النجاح الذي حققته التجربة أن ينظر في تعميمها على المدى البعيد، لاسيما بعد أن أبدى كثير من عناصر العملية القضائية ارتياحهم لنظام التقاضي الإلكتروني، الذي أدى إلى تيسير العمل وتسهيل الإجراءات، وضمان أداء الحقوق بأسهل الطرق وفي أسرع وقت، حيث تساعد تقنيات المعلومات الحديثة على تسهيل التواصل بين مختلف الفاعلين في ميدان القانون والحقوق، واختصار كثير من الإجراءات، مثل تبادل الصور والوثائق، وتسجيل الدعاوى، وإرسال الإخطارات القانونية والمحاكمات.​

قطعا سيكون هناك بعض الصعوبات والجوانب التي تحتاج إلى إعادة ترتيب، بحكم أن التجربة جديدة ولا زالت في بداياتها، لكن من المؤكد أنه يمكن التغلب عليها، لا سيما بعد صدور الدليل الإرشادي الخاص بوزارة العدل والذي ينظم كيفية العمل، فالحلول الرقمية والتكنولوجية باتت هي الحل الأمثل، في الوقت الذي اتجه فيه أغلب الشركات والقطاعات للعمل عن بعد، لتفادي التجمعات البشرية فضلا عن سهولتها وتوفيرها للوقت والجهد.​

بكل تأكيد سوف تثبت التجربة جدواها لما تحمله من فرصة كبيرة لاختصار عامل الوقت، وتوفير الجهد والنفقات، والتغلب على كثير من السلبيات التي كانت تعوق سير العمل، والتي تعاني منها المحاكم في معظم دول العالم، مثل إطالة أمد الفصل، وتخلف بعض المحامين وأطراف الدعاوى عن حضور جلسات المحاكمة بغرض المماطلة وكسب مزيد من الوقت. كما ستساعد القضاة على التغلب على كثرة القضايا المعروضة أمامهم، ما أدى إلى تراكمها، وبالتالي تسبب ذلك في ظهور حالات من الزحام بين المتقاضين في أروقة المحاكم.​

هناك أيضا جانب في غاية الأهمية لا ينبغي الإغفال عنه، هو أن النظام الجديد سوف يسهم بالتأكيد في توفير بيئة أكثر أمانا وموثوقية للمستندات، فالوثائق الإلكترونية أكثر موثوقية ومصداقية من نظيرتها الورقية، وسيكون من الصعب تزويرها والتلاعب فيها، كما سيؤدي ذلك إلى تخليص المحاكم من الأرشيف الورقي الضخم، الذي يتطلب الكثير من الوقت والجهد لأرشفته والوصول إليه، ويوفر إمكانية استبداله بنظام أرشفة إلكترونية بسيطة وحديثة، باستعمال أقراص مدمجة تتسع لأعداد هائلة من الوثائق والمستندات، مع الاحتفاظ بنسخ احتياطية يمكن الرجوع إليها عند الحاجة. مع توفير مساحات كانت تستغل كغرف ومستودعات ضخمة واستبدالها بمساحات صغيرة.​

وكلي ثقة في أن أعضاء السلك القضائي السعودي، بما أثبتوه من جدارة كبيرة في مسايرة التطورات الحديثة التي تعمل عليها الوزارة خلال الفترة الأخيرة سوف يكونون على قدر هذا التحدي، لا سيما أن أعدادا كبيرة منهم يجيدون أساليب التقنية العصرية، عطفا على ما يتمتعون به من قدرات كبيرة ومتقدمة، كما أن الوزارة - دون شك - تضع في حساباتها أهمية توفير التدريب اللازم لمن يحتاج من عناصرها. ومن بوادر نجاح التجربة ما أعلنته وزارة العدل التي كشفت أن إجمالي عدد الجلسات القضائية في اليوم الأول لإطلاق خدمة التقاضي الإلكتروني عبر بوابة ناجز تجاوز سبعة آلاف جلسة، شملت الترافع الإلكتروني، تبادل المذكرات، الاعتراض على الأحكام، استئناف الحكم، والنطق بالحكم، وغيرها من إجراءات التقاضي الأخرى.