تعد جدلية «العقل والنقل» التي جعلت من العقل مضادا للنقل، واحدة من أكثر الجدليات إثارة للنزاع والتحزب في الأوساط الثقافية المعاصرة، فقد أوحت بأن هناك طائفة من الناس قدمت العقل على النقل لذلك هي طائفة عقلانية، ويقف في مقابلها طائفة أخرى قدمت النقل على العقل وهي الطائفة اللاعقلانية، وكأن هناك معركة وجود مصيرية بينهما، وهذه المعركة حتمت علينا تحديد موقعنا فيها، إما الوقوف في صف العقل أو ضده.

في ظني أن هذه المعركة المعاصرة ليست في الحقيقة سوى معركة شعارات غير موضوعية، لأن الصراع القديم بين أهل المنهج العقلي و أهل المنهج النقلي، كان ذا طابع منهجي لا يلغي العقل من كليهما، فتأييد المنطق -على سبيل المثال- يحتاج إلى منطق، ودحض المنطق يحتاج إلى منطق مضاد، وهذا لا يلغي المنطق في كلتا الحالتين، فالمنطق موجود هنا وهناك. وكل قول في العقل، سواء أكان مدحا أو ذما، هو قول عقلي بالضرورة، لأن نقض العقل يتطلب أدواتا ومبادئ عقلية مقابلة تتطلب حضور العقل.

إن بداية تأسيس علم أصول الفقه، نتج عنه وجود صراعات فكرية بين مناهج ومذاهب عقلية متنافرة، مذاهب داخلية من داخل الثقافة العربية، قاد الاختلاف العقلي بينها لنشوء المذاهب الأربعة المعروفة في الفقه، وهذا الخلاف بين المذاهب الأربعة نتج عن اختلاف في الاجتهاد والقياس في المسائل الشرعية، وهذا الاختلاف دليل على حيوية العقل داخل الحضارة الإسلامية.

فالخلاف بين المذاهب الأربعة ليس خلافا عقديا وإنما خلافا عقليا أوجدته الحاجة إلى الاجتهاد والقياس، كونهما مصدرين مهمين من مصادر التشريع، وما الاجتهاد والقياس إلا إعمال للعقل وإعطاؤه الحرية والتوصل من خلاله إلى المعقول بالنظر والاستدلال.

أما الصراع مع العقل القادم من ثقافة أجنبية، ولعل أبرزه الصراع الفكري مع العقل اليوناني، فالعقل اليوناني كان حاضرا في الثقافة العربية، ولكن العلاقة معه لم تكن علاقة تبعية بين تابع ومتبوع، أو بين منتج للمعرفة مع مستهلك لها، بل كان حضور العقل اليوناني بصفته (آخر)، أي عقل آخر يساعد حضوره على الشعور بالأنا والإحساس بالذات، لذلك استطاع الفقهاء، وبسبب النص القرآني وخصوصية الإسلام واللسان العربي، أن يبنوا مذهبهم العقلاني الخاص، متميزين بذلك عن العقل اليوناني، ويؤسسون لمنطقهم الفقهي الخاص، لأن المنطق اليوناني من وجهة نظرهم كان قيدا يقيد العقل بقوانين مصطنعة ومتكلفة في الحد والاستدلال. وقد أسهبوا في طرح الحجج والبراهين التي تثبت تهافت المنطق الأرسطي.

وسواء أكان الفقهاء من أتباع المنهج العقلي أو المنهج النقلي، فإنهم نجحوا في تأسيس منطقهم الخاص، وتميز تفكيرهم الفقهي بالدعوة إلى المنهج الاستقرائي الذي يعتمد على الملاحظة والتجربة، وهذا ما لا نجده في المنطق اليوناني، وبسبب تأثر الفقهاء بالنزعة التجريبية نقدوا منطق أرسطو.

وهذا يؤكد أن وضع علاقة عكسية بين المنهج العقلي والمنهج النقلي، تلغي حضور العقل من أحدهما، كان علاقة خاطئة أوهمت بأن العقل يحضر في اتجاه ويغيب في اتجاه آخر، فحتى المنهج النقلي الذي يرفع شعار «تقديم النقل على العقل» هو منهج عقلي في جوهره، ولولا النزعة العقلانية الكامنة في قواعده وأدواته لعجز عن طرح منطقه الخاص وفلسفته المتفردة، فالتجربة العقلانية التي مارسها الفقهاء باختلاف توجهاتهم في علاقتهم بالنص القرآني، استطاعوا من خلالها أن يأسسوا فلسفة عقلية محضة أطلقوا عليها مفهوم «مقاصد الشريعة»، ولا أحد يستطيع أن يلغي حضور العقل في مباحث المقاصد، مع أن أغلب الفقهاء المنظرين لها، يرفعون شعار «تقديم النقل على العقل».