أسعد حقا عندما أرى أو أعيش تغييرا إيجابيا، وما نعيشه في هذه الأيام بسبب الجائحة فتح المجال لأمر إيجابي، بالنسبة للكثير حول العالم، ليس فقط بالنسبة للتواصل من تدريس واجتماعات عمل، بل مؤتمرات ومحاضرات وورش عمل ودورات والقائمة تطول، أشعر كأنني أمام مائدة مفتوحة فوقها كل ما لذّ وطاب من المعرفة، ما عليّ إلّا أن أمد يدي وأملأ صحني بما لا يشعرني بالتخمة أو حتى يفيض عن حاجتي، فكأس العلم يتسع ولا يفيض، ولا أشعر بأي تأنيب للضمير أو تقصير في حق ذاتي كالبعد عن الرياضة أو التركيز على تناول كل ما يقع تحت يدي، أنا أعيش عيدا للعلم والمعرفة، عيدا يتكرر كل يوم بحُلَّة جديدة.

لو أنني أستطيع أن أخبركم بعدد الدورات وورش العمل والمحاضرات التي حضرتها أو شاركت فيها لما صدقتم، كيف لا وحتى أنا لا أصدق نفسي، أتنقل كفراشة بين بساتين العلم والمعرفة، كلما وصلني رابط لمثل هذه الفعاليات سارعت إلى المشاركة بالحضور، والجميل أيضا تلك النفوس الطيبة التي تشارك غيرها بكل ما يصل إليها حتى تنشر الفائدة على نطاق أوسع، ويصل رحيق العلم والمعرفة إلى الجميع إذا أمكن. نعم هنالك من يترفع عن المشاركة، وهنالك من يرفض أن يشارك بفعالية ليس له دور فيها أو خارج نطاق تخصصه، لكن بالمقابل هنالك من يسعى إلى المشاركة، ويسعد بأن اسمه خطر على بال المرسل وشاركه ليس فقط بالمعلومة، بل أرسل إليه الرابط للفعالية. يا سادة إنه مهرجان، ولكن.. دائما هنالك لكن!

عندما أدخل إلى تلك المنصات التكنولوجية لنقل الفاعليات، والتي توفر تقليدا للتفاعل المباشر (وجهًا لوجه)، فإن أكثر ما أفتقده هو أن أرى الوجوه ثلاثية الأبعاد والشعور بالأجسام من حولي بالأعين.. بالأنفاس!

من خبرتي في التدريس، وعلى مدى طويل، تعلمت قراءة القاعة الدراسية بمن فيها وبشكل جيد: التناسق بين الأحداث، الأنفاس، الضحك، الأعين، نظرات التردد، التساؤل، الحيرة، الاكتشاف، الاهتمام ونظرات الملل، أشعر بنجاح الدرس من خلال حماس الطالبات وحديثهن معي ومع بعضهنّ البعض، عندما يضحكن في وقت واحد وتتلاقى نظراتهن، عندما يمرّرن عملا مشتركا يفتخرن به، هنا نرى الإدراك والتأثير في أفضل حالاته، كنت ألاحظ إيماءات الرأس، والنظرات المشتتة أو السارحة في ملكوت آخر، كنت أتفاعل بكل مشاعري مع نبض القاعة.

في الفعاليات عن بعد أفتقد كل ذلك، لا يمكنني رؤية الجميع في وقت واحد، فهنالك من لا يفعّل الكاميرا، وأنا منهم، لا يمكنني تتبع النظرات لأدرك ما خلفها من تركيز أو غيره مما ذكرت، أريد أن أفسر الحركات والإيماءات حتى أستطيع أن أتفاعل معها خلال محاضرتي أو مشاركتي، ولكن ببساطة لا أستطيع، لا أدري ما الذي يجري خلف الكاميرات، هل هنالك ارتباك أو تشوش؟ هل كان اتهاما أو اهتماما، هل كان الكلام مجرد توضيح أو لإظهار القيادة أو حتى للاستظراف؟ هل كانت الابتسامة للتشجيع أم للتعالي؟ إن التفاعل بالنسبة إليّ ليس فقط ما يكتب على صفحة «التشات» أو المعلومات التي يعرضها مقدم الدورة أو المحاضرة، لو كان الأمر كذلك لما احتجنا إلى التفاعل واكتفينا بالتسمر أمام الشاشة والاستقبال السلبي، ننظر إلى الأمام، ولكن ليس إلى بعضنا البعض، وعليه فإن جميع علامات التواصل التي نعتمد عليها كبشر للتفسير لا تظهر، ورغم ذلك نحاول أن نفسرها بمجرد قراءة ما كتب على جانب الشاشة!

أجمل ما في التواصل هو التناغم مع المتحدث، والتفاعل ليس بالأعين فقط، بل بلغة الجسد أيضًا، وحين نجد أنه في كثير من الأحيان يفقد هذا التناغم بسبب التباعد، وأيضا بسبب الانقطعات التي تحدث خلال العرض من صوت أو ضعف في الإرسال، وكلها خارجة عن الإرادة أو تمكن المقدم والحضور، يتسبب ذلك في تشوش سيميائي يضيع علينا الكثير مما كنا سنخرج به فيما لو تم ذلك.

جميل أن نلتقي ونتشارك بالعمل والمعرفة والمهارات، والأجمل أن يكون وجهًا لوجه. التواصل تناغم، وحين يفقد هذا التناغم أحد مقوماته يضيع الإيقاع، وما يصل إلينا لا يمثل الواقع، بل هو مرآة، وهل تصدق المرآة؟! عندما أريد أن أنمو، أفضل أن أعتمد على الإنسان الذي هو أمامي، وليس على انعكاس له ضمن مجموعة من الانعكاسات، أرجو ألّا أفهم خطأ، لست ضد بل مع وبكل جوارحي، ولكن لا أعتبرها البديل، وفي انتظار أن نعود إلى التواصل البشري المباشر، وكلي أمل بالله ـ سبحانه ـ أن نعود، وإلى أن نعود أنصحكم بألا نضيع أي فرصة، ولنشارك في هذا العرس الافتراضي، وطالما أن هنالك فائدة فلنحرص على ألّا تفلِت من بين أيدينا!